في يوم ماطر من شهر مايو/أيار عام 1673، وفي أعماق الغابات الكثيفة في غويانا الفرنسية (أحد أقاليم ما وراء البحار الفرنسية)، توفي أحد العلماء. كان معروفا لدى المؤرخين باسمه الأول فقط موريس، وربما أصيب بمرض أو حادث مميت، ولكن لم يُسجل الوصف الكامل لوفاته بشكل دقيق، وكان الشخص الوحيد معه هو شريكه عالم الفلك الفرنسي جان ريتشر الذي أُصيب بالمرض ويقاتل من أجل النجاة.

أُرسل الثنائي إلى كايين عاصمة غويانا على الساحل الشمالي الشرقي لأميركا الجنوبية في العام 1672 من باريس، على بعد 4400 ميل. أرسلتهما الأكاديمية الفرنسية للعلوم (التي تأسست سنة 1666 في عهد لويس الرابع عشر المعروف أيضا باسم لويس العظيم أو ملك الشمس، وكانت من أوائل الأكاديميات العلمية في العالم) بناء على طلب من عالم الرياضيات والفلك الإيطالي الفرنسي جيوفاني دومينيكو كاسيني، وكان جزءا من مهمتهما إجراء قياس من شأنه أن يكشف عن المسافة بين الأرض والشمس، وهي قيمة لم تكن معروفة بعد.

نتتبع في هذا التقرير كواليس هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر، وما توصل إليه العالمان الفرنسيان ريتشر وموريس، والمخاطر التي تعرضا لها، وكيف انتهى بهما الحال إلى نهاية موت موريس ونجاة ريتشر بأعجوبة، وكيف أسهمت النتائج التي توصلا إليها في فهم النظام الشمسي؟

مساعي الوصول إلى الشمس

قبل الخوض في غمار الرحلة لا بد من الإشارة إلى أن ما توصل إليه العالمان الفرنسيان لم يكن سوى خطوة واحدة في طريق طويل لفهم نظامنا الشمسي، فلطالما ظل الإنسان يحدق في السماء، وكانت هناك محاولات لتحديد المسافة إلى الشمس، وأنتج العلماء في العصور القديمة تقديرات تختلف بشكل كبير، وغالبا ما تقلل إلى حد كبير من القيمة الحقيقية.

تمثلت أولى هذه التقديرات فيما قام به عالم الفلك اليوناني إراتوستينس، وهو أول من قام بحساب ميل محور الأرض في القرن الثالث قبل الميلاد، وكان من أوائل الراصدين الدقيقين للظواهر السماوية، وكان قادرا على حساب حجم عالمنا بمستوى عال جدا من الدقة، وبعد رحلة طويلة تمكن من استنتاج مقدار المسافة بين الأرض والشمس، ولكن بدقة أقل، وقدّرها بـ20 ضعف المسافة بين الأرض والقمر، أي نحو 7.4 ملايين كيلومتر.

ومع مرور أكثر من 1500 سنة وظهور فلكيين نابغين مثل مؤسس علم الفلك الحديث نيكولاس كوبرنيكوس أول من صاغ نظرية مركزية الشمس، وتيخو براهي الذي لعب دورا هاما في تقدم علوم الفلك قبل ظهور التلسكوب، لم يتمكن أي منهما من تعديل المسافة التي قدرها إراتوستينس (تساوي نصف قطر الأرض بنحو 1142 و1150 مرة) أو يبتكر طريقة مشابهة.

ومع انتقال علم الفلك من الحضارة اليونانية إلى الحضارة الإسلامية، أجرى علماء الفلك بعض التعديلات على النموذج الكوني لإراتوستينس، لكن لم يغيروا وقتها من المسافة إلى الشمس التي قدّرها إراتوستينس بشكل كبير. فعلى سبيل المثال، أوضح عالم الفلك والرياضيات العربي أحمد بن كثير الفرغاني في مقدمته عن فَلَك التدوير في النظام البطلمي أن المسافة الشمسية تساوي نصف قطر الأرض بنحو 1170 مرة، بينما استخدم محمد بن جابر بن سنان البتاني  المُلقب بـ”بطليموس العرب” في جداوله الفلكية مسافة شمسية مساوية لنصف قطر الأرض بنحو 1108 مرات، واستخدم علماء الفلك اللاحقون مثل أبو الريحان البيروني صاحب كتاب “مفتاح علم الفلك” قيما مشابهة لهذه المسافات.

ظلت حسابات إراتوستينس للمسافة بين الأرض والشمس باقية حتى القرن السادس عشر. ومع اختراع التلسكوب عام 1635، تمكن الفلكي البلجيكي غودفروا فيندلين من إجراء دراسات أكثر دقة تعجز العين المجردة عن تحديدها، ووجد أن مسافة الشمس الخاصة بإراتوستينس أقل من المسافة الحقيقية بنحو 11 مرة، وقدرها بـ81 مليون كيلو متر.

وفي أواخر القرن السابع عشر حاولت المؤسسات العلمية الأوروبية الجديدة الاستفادة من شبكات التجارة لتحقيق أهدافها الخاصة، لكن تبين أن تحقيق هذه الغاية أمر بالغ الصعوبة.

ووفقا لما ذكره نيكولاس ديو في كتابه “العلم والإمبراطورية في العالم الأطلسي”، عادة ما يُنظر  إلى البعثات الاستكشافية التي قامت بها الأكاديمية الفرنسية للعلوم المبكرة على أنها تدشين حقبة جديدة من القياس الدقيق في علم الفلك والجيوديسيا ورسم الخرائط، لكن الرحلة إلى كايين هي التي جمعت البيانات الأساسية التي أنتجت -جنبا إلى جنب مع براعة كاسيني الرياضية- أول قياس دقيق للمسافة الشاسعة بين الأرض والشمس.

سنوات ما قبل الرحلة

في 11 يناير/كانون الثاني 1667، أي قبل خمس سنوات من انطلاق الرحلة الاستكشافية إلى غويانا الفرنسية، وقف عالم الفلك الفرنسي أدريان أوزوت في قاعة الاجتماعات في مكتبة الملك الفخمة في باريس، وأمام تجمع صغير من الرجال الذين يرتدون باروكات طويلة وسميكة، وضع برنامجا جريئا للبحث العلمي.

كان برنامج أوزوت واسعا، ويحمل رؤية لاستخدام حركة التجارة الاستعمارية لإرسال مراقبين إلى نقاط حول العالم لإجراء ملاحظات في علم الفلك، وأدرك أن بعض المسائل الفلكية -بما في ذلك المسافات إلى الكواكب والشمس- تتطلب إجراء عمليات رصد في وقت واحد في موقعين مختلفين، كما هو الحال في باريس وفي منطقة نائية.

ووفقًا لما ذكرته الباحثة دينابا يونغ المقيمة في باريس في مقال بمجلة “ناشونال جيوغرافيك”، دعا أوزوت إلى القيام برحلات استكشافية فلكية إلى مدغشقر بشرق أفريقيا، حيث كان من المتوقع أن تبدأ شركة الهند الشرقية الفرنسية التي تأسست عام 1664 عملياتها، كما أن القرب من خط الاستواء سيسمح لعلماء الفلك بالحصول على الملاحظات الأساسية.

وبينما كان الرجال يستمعون، ربما كانت أصوات وروائح المدينة المزدحمة قد انبعثت عبر النوافذ. ففي أواخر القرن السابع عشر، اشتهرت باريس بمواكب الكنيسة الصاخبة وحفلات السُّكْر والعنف المسلح. وفي السابعة صباحا من كل يوم، كان مسؤولو المدينة يسيرون في الشوارع الواسعة، ويقرعون أجراسا كبيرة لإيقاظ السكان، ويوجهونهم لتنظيف الأوساخ التي تراكمت أمام منازلهم أو المخاطرة بدفع غرامة.

كانت المدينة الصاخبة معقلا للنشاط الفكري والتجارة، حيث اختلط عدد كبير من السكان الأثرياء مع أعضاء المجتمع العلمي، وكان العديد من أمهر صانعي الأدوات العلمية موجودين في باريس في ذلك الوقت، وفي ضواحي المدينة بدأ بناء مرصد فلكي كبير جديد.

وبعد عامين من خطاب أوزوت، في أبريل/ نيسان عام 1669، وصل كاسيني إلى باريس بعربة مليئة بالأدوات الفلكية بعد دعوته شخصيا من أقوى ملك في أوروبا، لويس الرابع عشر ملك فرنسا، وسرعان ما أصبح أحد الشخصيات اللامعة في الأكاديمية.

جذبت قدرات كاسيني انتباه لويس الرابع عشر الذي أنشأ تحت رعايته أول مرصد عام كبير في باريس عام 1671، واستمر في الخدمة بصفته مديرا للمرصد، وأثناء إقامته في الطابق الثاني من المرصد عمل على حل المشكلة بلا هوادة، وقام بمعظم اكتشافاته العلمية لبقية حياته من هناك.

Observatory Foundation in Paris picture of the school of Lebrun at Versailles, vintage engraved illustration. Magasin Pittoresque 1880..

وبحلول سبعينيات القرن السابع عشر، وبمساعدة الأدوات الفلكية المطورة حديثا، حيث ابتكر كاسيني سلسلة من البرامج البحثية الطموحة، وكان مصمما على العثور على الإجابة عن سؤال “كم تبعد الشمس عن الأرض؟”، وتصفه غابرييلا برناردي في كتابها “جيوفاني دومينيكو كاسيني.. عالم فلك حديث في القرن السابع عشر”: “لم تكن لديه هوايات، من مذكراته يظهر رجل مخلص تماما لمهنته”.

من مدغشقر إلى كايين

مع استمرار الأكاديمية في الاستعداد لبعثة فلكية إلى خط الاستواء، حوّل العلماء تركيزهم من مدغشقر في شرق أفريقيا إلى كايين على الساحل الشمالي لأميريكا الجنوبية. كانت هذه المستوطنة الفرنسية على مسافة أقصر، وكان على الأكاديمية أن تتصرف بسرعة للوقوف على حدث جدير بالملاحظة؛ وذلك أنه في خريف عام 1672 سيكون المريخ والأرض في أقرب نقطة من بعضهما البعض خلال 15 عاما.

ومن خلال مراقبة المريخ في الوقت نفسه من موقعين مختلفين على الأرض، تمكن العلماء من حساب الاختلاف الواضح في موقع المريخ مقارنة بنجوم الخلفية، والمعروف باسم اختلاف المنظر أو التخاطل.

كانت الرحلة في ذلك الوقت إلى غويانا الفرنسية روتينية، وكانت جزءا من سلسلة من البعثات العلمية التي أرسلها كاسيني، فقد سبق أن سافر ريتشر وموريس إلى شمال شرق أميركا الشمالية قبل عامين لقياس خطوط العرض وارتفاعات المد والجزر، وتبعتهما البعثات العلمية الفرنسية إلى وجهات مثل السنغال والإكوادور.

كان كاسيني حدد لريتشر عدة أهداف: قياس مواقع النجوم الجنوبية، وارتفاعات المد والجزر، ومدة الشفق، ومراقبة أقمار المشتري، وتدوين ملاحظات مفصلة عن حركات الزهرة والمريخ وعطارد، وكان من المتوقع أيضا أن يقوم هو وموريس بإجراء قياسات بارومترية ومراقبة النباتات والحيوانات غير العادية.

رحلة محفوفة بالمخاطر

قضى ريتشر وموريس عدة أيام وليال في العمل جنبا إلى جنب مع كاسيني للتحضير لعمليات الرصد المشتركة التي يتعين عليهما إجراؤها على بعد آلاف الأميال، ومع مرور الأيام عرف الثنائي أنهما يشرعان في رحلة محفوفة بالمخاطر.

سافر ريتشر وموريس أولا إلى ميناء لاروشيل الفرنسي، وأمضيا 3 أشهر في اختبار أدواتهما، بما في ذلك أجهزة القياس والعديد من التلسكوبات ذات الأحجام المختلفة، وعدد قليل من الساعات البندولية.

وفي 8 فبراير/شباط 1672، أبحرا إلى كايين على متن سفينة تجارية ربما كانت سفينة عبيد فارغة في طريقها إلى السنغال، وبعد أقل من شهرين وصلا إلى وجهتهما في 22 أبريل/ نيسان 1672.

لم تكن المستوطنة الصغيرة المقفرة مشهدا مشجعا لريتشر وموريس، فقد كانت كايين -التي لا تزورها سوى سفينتين أو ثلاث سنويا- مفصولة عن بقية غويانا بمصب نهر ماهوري الضيق الذي يبلغ طوله 11 ميلا من جهة ونهر كايين الضيق من جهة أخرى.

وعندما نزلا من القارب، ربما أدرك كل منهما أنه اختار الوقت الخاطئ للقيام بهذه الرحلة، ففي منطقة الأمازون يقترب أواخر شهر أبريل/ نيسان من ذروة موسم الرياح الموسمية والأمطار الغزيرة التي تغمر النهر، ويكون الجو رطبا للغاية، ويكثر فيه البعوض.

وفي وسط المستوطنة، كان يوجد حصن سيبيرو الخشبي، وسُمي بهذا الاسم نسبة إلى زعيم السكان الأصليين، وهو مبنى كئيب ومنعزل أعيد بناؤه بالأحجار بعد الهجوم الأخير الذي شنه السكان الأصليون، مما يدل على تصميم المستعمرين الفرنسيين على البقاء. وعلى بُعد مسافة قصيرة سيرا على الأقدام من الحصن كان يوجد متجر عام كان يخدم المستوطنة وغالبا ما كان به القليل على الرفوف، وكانت هناك أيضا كنيسة متواضعة ودار إرسالية.

وصفت كاثرين لوسير كايين في عام 1685 في كتاب “إمدادات كايين في النظام القديم.. علم الآثار وتاريخ الشبكات التجارية”؛ بأنها مسكن يشغله أربعة آباء وأخ، إلى جانب 82 شخصا أفريقيا مستعبدا (32 رجلاً و23 امرأة و27 طفلًا) للعمل في محاصيل اليسوعيين ورعاية مواشيهم. شكَّل الأفارقة المستعبدون حوالي 85% من المستوطنة.

على هذه الأرض كان هناك شعب كالينا المعروفون أيضا باسم الكاريبيين، وهم الشعوب الأصلية في المناطق الساحلية الشمالية من أميركا الجنوبية، وكان السكان الأصليون -الذين يُطلق عليهم أيضا “غاليبي”- يقيمون في منطقة كايين منذ أكثر من ألفي عام قبل وصول الأوروبيين، وكانت التفاعلات السابقة بين المجموعتين مضطربة. وكما كتب أحد المستوطنين -وهو بول بوير- بعد زيارة في عام 1654 تقريبا: “كل ما كان بإمكان عائلة غاليبي التفكير فيه هو كيفية التخلص من الفرنسيين”.

على مدى السنوات التالية فقد الفرنسيون الحصن مؤقتا لصالح القوى الاستعمارية الأخرى، فقد تمكن الهولنديون من الاستيلاء على المستعمرة بعد عقد من حكم الضابط الفرنسي تشارلز بونسيه دي بريتيني، لكن القوات الفرنسية الجديدة أجبرتهم على الخروج في هجوم مفاجئ، ثم طرد البريطانيون المستوطنين الفرنسيين في عام 1667، واستعادوا السيطرة على المستعمرة بعد عام، أي قبل أربع سنوات فقط من وصول ريتشر.

وبالنسبة للملك لويس الرابع عشر، فقد قدمت غويانا موقعا إستراتيجيا لفرنسا للحصول على موطئ قدم في قارة أميركا الجنوبية، لكن كان هناك سبب آخر لجذب دول أوروبا إلى المنطقة، فقد اعتقد الأوروبيون الذين كانوا يقاتلون للسيطرة على كايين أن مدينة الذهب الأسطورية كانت مخبأة في مكان ما داخل غويانا، ومن يسيطر على كايين سيكون لديه طريق مباشرة إلى الثروات، ومع ذلك شرع ريتشر وموريس في البحث عن الكنز العلمي.

في مواجهة الطبيعة القاسية

بعيدا عن المستوطنة المتنازع عليها، وعبر النهر الضيق، تقع بقية منطقة غويانا، وهي عبارة عن غابة مطيرة بدائية كثيفة تحتوي على نباتات وحيوانات لا توجد في أي مكان آخر في العالم. كانت هذه البيئة الغنية بآكلات النمل والإغوانا والقرود العنكبوتية والنمور المرقطة والببغاوات الخضراء الزاهية؛ غريبة على ريتشر وموريس، ومختلفة تماما عن شوارع باريس المرصوفة بالحصى.

وتشير سجلات الأكاديمية إلى أن ريتشر وموريس قاما بتدوين ملاحظات مفصلة عن النباتات والحيوانات، وفي مرحلة ما واجه ريتشر ثعبانا كهربائيا وجها لوجه، وكتب لاحقا أن “لمسة بسيطة بإصبع أو طرف عصا تؤدي إلى تخدير الذراع بحيث يبقى المرء حوالي 15 دقيقة غير قادر على التحرك”، لكن أغلب هذه الملاحظات تقريبا ضاعت مع مرور الوقت.

وفور وصوله بدأ ريتشر باستكشاف الغابة بحثا عن أفضل مكان لبناء مرصد. وبعد بضعة أسابيع، حدد الرجلان مكانا وقاما بتجنيد عمال من السكان الأصليين وبناء هيكل يتكون من أغصان ولحاء الأشجار وأوراق النخيل، مع وجود ثقب كبير في السقف لتلسكوباتهم، وقبل منتصف مايو/أيار انتهوا من المرصد.

وكانت ملاحظة ريتشر الأولى في 14 مايو/أيار عندما قام بحساب ارتفاع نجم الشمال، وهو نجم يعلو القطب الشمالي للكرة الأرضية، ويقع قريبا من محور دوران الأرض حول نفسها، لذلك فهو دائم الظهور ويقع في الشمال دائما.

لقد كانت بداية واعدة لما سيكون لاحقا مهمة صعبة للغاية، وكتب ريتشر إلى كاسيني يخبره بعدم قدرته على تسجيل الملاحظات لعدة أيام متواصلة بسبب سوء الأحوال الجوية، فلم يمر يوم تقريبا دون هطول الأمطار منذ وصولهما، وفي مرحلة ما زحف عدد كبير من النمل إلى الأجهزة، مما أدى إلى تشويش الآلات الدقيقة وتسبب بتوقف واحدة على الأقل تماما.

اعتمد ريتشر وموريس بشكل كبير على الإمدادات القادمة من فرنسا، وذلك رغم توفر الغذاء المحلي في شكل لحوم الحيوانات البرية والأسماك والنباتات الصالحة للأكل مثل الموز والأفوكادو والمانغا. وفضَّل الفرنسيان تناول الأطعمة المألوفة بما في ذلك عبوات اللحوم والدقيق ونبيذ بوردو والقهوة والجبن، وهي الإمدادات التي نادرا ما تتجدد بواسطة السفن المارة، فقد كان إرسال الطعام إلى المستعمرات مشكلة مستمرة بسبب بطء البريد وندرة مرور السفن.

انتهت المهمة

أخيرا، في أكتوبر/تشرين الأول 1672 توقف موسم الأمطار في الوقت المناسب تماما لمراقبة المريخ، وقام ريتشر بقياس ورصد الكواكب والنجوم القريبة على مدار عدة أسابيع.

وعبر المحيط الأطلسي وعلى بعد 4400 ميل، قام كاسيني وعالم الفلك الدانماركي أولي رومر أيضا بإجراء قياسات في الأوقات المتفق عليها من خلال النظر من نافذة مرصد باريس.

وفي الوقت نفسه في لندن، كان عالم الفلك جون فلامستيد من جمعية لندن الملكية لتحسين المعرفة الطبيعية (تعرف اختصارا بالجمعية الملكية)، يقيس أيضا اختلاف منظر المريخ لتحديد المسافة إلى الشمس، ويراقب المريخ مرة واحدة في وقت مبكر من المساء، وينتظر عدة ساعات حتى تدور الأرض ثم يقيس مرة أخرى، كانت حساباته النهائية متقاربة، ولكنها ليست دقيقة تماما مثل حسابات كاسيني.

أتاحت مقارنة مشاهدات ريتشر للمريخ مع تلك التي أُجريت في أماكن أخرى تحديد مسافات المريخ والشمس عن الأرض، مما أدى إلى أول حساب دقيق إلى حد معقول لأبعاد النظام الشمسي وإظهار أن النظام أكبر بكثير مما كان يعتقد سابقا.

في ربيع عام 1673 لقي موريس حتفه، ربما بسبب الحمى الصفراء أو الملاريا أو الالتهاب الرئوي أو حتى بسبب سوء التغذية الحاد، وشعر ريتشر -الذي أصبح وحيدا- بالمرض لدرجة أنه لم يتمكن من مواصلة رحلته، وبحث عن عينات لإعادتها إلى الأكاديمية، فأمسك تمساحا حيا وقيّده بالسلاسل في عنبر السفينة.

بعد أن أُصيب بالمرض صعد على متن السفينة ومعه مسودة تقرير مهمته، وغادر كايين ذروة موسم الرياح الموسمية، حيث كان النهر على وشك الفيضان، وكان المطر ينهمر بلا هوادة على الأرض التي كان يتركها وراءه في 25 مايو/أيار 1673. وفي رحلة طويلة إلى وطنه، مات التمساح من الجوع، لكن ريتشر تعافى.

وفي عام 1679 صدر تقرير مهمة ريتشر الرسمي بعنوان “الملاحظات الفلكية والفيزيائية في جزيرة كايين”، وبمساعدة البيانات التي حصل عليها ريتشر تمكن كاسيني أخيرا من إجراء حساباته، معلنًا في منشور صدر عام 1684 أن “شمسنا التي بدت قريبة جدًا، كانت في الواقع على بعد 140 مليون كيلومتر (87 مليون ميل)”، وهي مسافة تقديرية قريبة بشكل ملحوظ من المسافة الحقيقية التي تبلغ حوالي 149.6 مليون كيلومتر (93 مليون ميل)، وهي النتيجة التي استغرق الوصول إليها مئات السنين إن لم يكن الآلاف.

انتشرت أخبار البعثة والكشف عن الحجم الهائل للنظام الشمسي بسرعة، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى الكتابات الشعبية لبرنارد لو بوفييه دي فونتينيل، الذي كتب عن العلم بأسلوب روائي فريد من نوعه، واشتهر بمعالجته المبسطة للموضوعات العلمية، ولأول مرة أصبح علم الفلك موضوعا رائجا على موائد الطعام.

نتائج أخرى

كان الباحثون ورجال الدولة الأوائل في العصر الحديث مدركين تماما للحاجة إلى تحسين معايير القياس، وإن كان ذلك لأسباب مختلفة، وكان تنوع الوحدات التي صنعها الإنسان عبر المناطق والتواريخ بحلول القرن السابع عشر، أمرا شائعا ومثيرا للشكوك بالفعل.

وشهد أواخر القرن السابع عشر العديد من العلماء الذين قدموا ترشيحات مختلفة لمعيار عالمي، وكان أكثر هذه المشاريع الواعدة هو استخدام بندول الثواني كمعيار للطول، وهو المشروع الذي تابعته الأكاديمية الفرنسية للعلوم في سبعينيات وثمانينيات القرن السابع عشر، وظل هدفا يعتز به العلماء خلال القرن الثامن عشر.

لذلك لم يكن تحديد المسافة من الأرض إلى الشمس هو الإرث الوحيد الذي خلفته رحلة ريتشر الاستكشافية إلى كايين، فأثناء وجوده في أميركا الجنوبية، قام أيضا بقياس طول البندول ومقارنة النتائج بساعاته التي جرى معايرتها بدقة.

وأدت ملاحظات ريتشر أيضا إلى اكتشاف شكل الأرض. ومن خلال التجربة، اكتشف ريتشر أن إيقاع البندول المتأرجح يكون أبطأ بثانية في كايين منه في باريس التي تقع على خط عرض مختلف، وهذا يعني أن الجاذبية يجب أن تكون أضعف في كايين منها في باريس.

وعلى الرغم من أن ريتشر لم يدرك هذه النتيجة في ذلك الوقت، فإن ذلك كان بسبب حقيقة أن الجاذبية أقل قليلاً بالقرب من خط الاستواء، حيث تنتفخ الأرض أثناء دورانها فيما يعرف بـ”الانتفاخ الاستوائي”، وهو انتفاخ الكوكب حول خط استوائه، مما يتسبب بقياس البندول لثانية أقصر.

وبعد نحو 15 عاما، اكتشف إسحاق نيوتن السبب مستخدما قياسات ريتشر دليلا على نظرياته الجديدة بشأن الجاذبية، كما استخدم عالم الرياضيات الهولندي كريستيان هويغنز هذا الاكتشاف لإثبات أن الأرض ليست كروية ولكنها في الواقع مسطحة عند القطبين (جسم كروي مفلطح)، وبالتالي فإن كايين أُبعد من باريس عن مركز الأرض.

وفي عام 1740، كتب فولتير في رسالة إلى صديقه المستشار الملكي والكاتب السياسي الإنجليزي اللورد جون هيرفي “فكر فقط يا جون، لولا الرحلات والتجارب التي قام بها أولئك الذين أرسلهم لويس الرابع عشر إلى كايين عام 1672 ما كان لنيوتن أن يتوصل إلى اكتشافاته المتعلقة بالجاذبية”.

ومثلما توارت السفينة التجارية التي حملته إلى وطنه بعيدا عن شواطئ غويانا الخضراء، توارى ريتشر هو الآخر عن الأنظار، وأصبح الحساب الدقيق للمسافة بين الأرض والشمس بمثابة انتصار كامل تقريبا لكاسيني الذي يُعتقد أن نجاح الرحلة كان بسبب النهج الحديث الذي اتبعه من خطة المراقبة المنتظمة، بالتعاون مع العديد من الزملاء الآخرين. وبمجرد عودة ريتشر بأمان إلى فرنسا، انفصل عن الأكاديمية وتولى منصب مساعد مهندس عسكري.

ومع التقدم العلمي، وخصوصا في مجال الفلك، توصل العلماء إلى آلية جديدة لحسابات المسافات، وهي مؤشر الشموع المعيارية، وهي طريقة معتمدة على معرفة نوع اللمعان الصادر من النجوم. وبحساب الفترة الزمنية للدورة الواحدة يتمكن العلماء من استنتاج المسافات بيننا وبين النجوم بوجه عام.

شاركها.
Exit mobile version