من بين أهم الأهداف المعلنة لسد النهضة الإسهام بشكل كبير في توليد الطاقة الكهرومائية لدعم التنمية في إثيوبيا ودول الجوار، لكن دراسة دولية كشفت عن تسرب كمية كبيرة من مياهه، مما قد يمثل تحديا أمام تحقيق هذا الهدف.

وقدرت الدراسة -التي أجراها فريق دولي من علماء الهيدرولوجيا والجيولوجيا- حجم تسربات ضخمة للمياه من خزان السد تقدر بنحو 19.8 مليار متر مكعب خلال السنوات الثلاث الأولى من ملء السد، وهو ما يسلط الضوء على الحاجة إلى إعادة تقييم عاجلة لإستراتيجيات إدارة المياه في حوض النيل، على ألا تغفل هذه الإستراتيجيات الدور الذي تلعبه تلك المياه المتسربة في تحفيز النشاط الزلزالي الذي قد يؤثر على سلامة السد نفسه.

واعتمدت الدراسة -التي نشرتها دورية “بي إن ايه إس” التابعة للأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأميركية- على منهجيات علمية مثبتة في دراسات سابقة، وقادت جميعها إلى تقدير كمية المياه المفقودة.

كيف قدر الباحثون المياه المفقودة؟

ويشرح الباحث في جامعتي مشيغان وأريزونا الأميركيتين والباحث المشارك بالدراسة الدكتور كارم عبد المحسن في تصريحات للجزيرة نت الأدوات العلمية التي تم استخدامها لتقدير هذا الحجم الكبير من المياه الضائعة بلا طائل.

واعتمد الباحثون بشكل أساسي على بيانات الأقمار الصناعية التابعة لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، إذ وفر القمر الصناعي “غريس” والقمر الصناعي “غريس فولو- أون” معلومات بشأن التغيرات في الجاذبية الأرضية، وبالتالي مخزون المياه على سطح الأرض، مما ساعد في تتبع ملء المياه وتخزينها في السد.

ويقول عبد المحسن إنه “عندما يتغير تخزين المياه في منطقة معينة (نتيجة امتلاء خزان سد أو جفافه) يؤدي ذلك إلى تغيرات طفيفة في قوة الجاذبية بهذه المنطقة، وتقوم الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض مثل “غريس” و”غريس فولو- أون) بقياس التغيرات الدقيقة في قوة الجاذبية، فإذا مرت الأقمار فوق منطقة حدث فيها تغيير كبير في تخزين المياه فإنها ترصد تلك التغيرات، وباستخدام هذه البيانات يستطيع العلماء حساب كمية المياه التي أضيفت أو فُقدت في المنطقة”.

ويضيف أن “البيانات التي توفرت ساعدتنا على إجراء حسابات دقيقة لموازنة المياه في المنطقة، فمن خلال قياس كمية المياه المخزنة في الخزان والكمية المستهلكة عن طريق التبخر تمكنا من تقدير فقدان 19.8 مليار متر مكعب من بين 43 مليار متر مكعب تراكمت في الخزان خلال السنوات الثلاث الأولى”.

وحددت الدراسة أن التسرب يتماشى مع اتجاهات الفوالق في المنطقة، مما يشير إلى أن هذه التراكيب الجيولوجية تعمل كقنوات لحركة المياه الجوفية بعيدا عن الخزان، وهذا يشير إلى وجود علاقة محتملة بين عمليات السد والديناميات الجوفية في المناطق المحيطة.

وأكدت تحليلات الصور الفضائية ظهور مستنقعات جديدة في السهول شرق وادي النيل، والتي زادت من 109 كيلومترات مربعة في عام 2020 إلى 328 كيلومترا مربعا في عام 2022، ويتزامن هذا التوسع في الأراضي الرطبة مع أنماط هطول الأمطار المتناقصة، مما يشير إلى أن المياه الجوفية من خزان السد تساهم في هذه التغيرات البيئية.

صور أقمار صناعية من شركة "ماكسار" الأمريكية تظهر عملية الإنشاءات الجارية والتعلية في سد النهضة لتجهيزه للتعبئة الرابعة

إدراج الحقائق في إدارة المياه

ويدعو عبد المحسن إلى أهمية إدراج هذه الحقائق في إدارة المياه بمنطقة حوض النيل، قائلا إن” نتائجنا تشير بوضوح إلى أن مشكلة التسريب قد تجعل وجود السد مؤثرا بشكل كبير على توفر المياه بسبب الحاجة الإثيوبية إلى تعويض التسريب بشكل دائم، مما قد يزيد التوترات بين دول حوض النيل”.

ويضيف “يجب إعادة عمل تقييم شامل لإستراتيجيات إدارة مياه النيل يتم خلالها دمج بيانات التسريب، فهذا أمر بالغ الأهمية للإدارة الفعالة للمياه ومنع النزاعات في حوض النيل، وقد يؤدي إغفال هذه البيانات إلى سياسات غير فعالة وزيادة التوترات بين الدول التي تعتمد على النيل مصدرا لمياهها”.

ويؤيد هذه الدعوة أستاذ الجيولوجيا والمواد المائية في جامعة القاهرة الدكتور عباس شراقي الذي وصف حجم المياه المتسربة الذي قدرته الدراسة بـ”الضخم” لكنه ليس مستبعدا بسبب الطبيعة الجيولوجية لمنطقة بناء السد.

ويقع سد النهضة الإثيوبي في منطقة جبلية تتكون بشكل رئيسي من صخور الأساس البركانية، والتي تشمل بشكل أساسي البازلت الذي يتميز بنفاذية عالية نسبيا تساهم في تسرب المياه.

كما أن المنطقة تحتوي على نظام معقد من الشقوق والفوالق الجيولوجية التي يمكن أن تؤثر على حركة المياه الجوفية، وهذه الشقوق يمكن أن تعمل كقنوات تسهل تسرب المياه من خزان السد إلى التكوينات الجيولوجية المحيطة.

ويزيد من هذا التأثير الجيولوجي ما يعرف بـ”الضغط الهيدروستاتيكي” الناتج عن الحجم الكبير للماء المخزن في خزان السد، والذي يدفع المياه نحو التكوينات الجيولوجية المحيطة، والتي تحتوي بدورها على مسارات سهلة للتسرب، مما يمكن أن يزيد كمية المياه المفقودة.

ويرى شراقي أن إثيوبيا لن تتأثر على المدى القصير بمشكلة التسرب، لأن الكمية المخزنة حاليا والمقدرة بـ60 مليار متر مكعب كافية لتحقيق غرض إنتاج الكهرباء، وفي حال تسربت كميات منها تستطيع تعويضها لاحقا، وسيكون المتضرر الحقيقي هو مصر والسودان، لأن ذلك سيكون خصما من حصتهما من المياه.

تحفيز النشاط الزلزالي

لكن أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية في جامعة القاهرة لم يستطع أن يخفي قلقه من أن تكون هذه الكميات الكبيرة المتسربة من المياه عاملا مساعدا في تحفيز النشاط الزلزالي بالمنطقة.

وكان متوسط حدوث الزلازل التي تزيد على 4 درجات في إثيوبيا نحو 5 أو 6 زلازل سنويا، لكنه مع بدء عملية التخزين الضخمة للمياه وما صاحبها من تسربات شهدت إثيوبيا في عام 2023 نحو 38 زلزالا، ووصل العدد في عام 2024 حتى الآن إلى 32 زلزالا، منها 6 زلازل خلال الأسبوعين الماضيين، كما يوضح شراقي.

ويقول إن”هناك أسبابا علمية عدة تربط بين تسرب المياه إلى الفوالق في إثيوبيا والنشاط الزلزالي غير المسبوق، فعندما يتسرب الماء من الخزان إلى الصدوع والكسور تحت الأرض فإنه يزيد ضغط المسام في الصخور المحيطة، وعندما يرتفع هذا الضغط فإنه يقلل الاحتكاك الذي يربط خطوط الصدع معا، مما يجعلها أكثر عرضة للانزلاق”.

كما أن المياه المتسربة تعمل على إضعاف الصدع، فعادة يتم تثبيت الصدوع في مكانها بواسطة وزن الصخور التي تعلوها والاحتكاك بين مستويات الصدع، لكن تسرب المياه يعمل على تزييت هذه الصدوع، مما يؤدي إلى إضعافها بشكل فعال، وهذا يقلل مقدار الضغط اللازم لإحداث انزلاق أو تمزق على طول خط الصدع، مما قد يؤدي إلى زلزال.

وإذا كانت الزلازل حاليا في نطاق 4 أو 5 درجات بما لا يوثر على سلامة جسم السد لكن ما يخشاه شراقي هو أن تكون المنطقة على موعد مع زلزال كبير، ولا سيما أنها منطقة نشطة زلزاليا بطبيعتها وتملك حاليا أسبابا محفزة للزلازل، منها الحجم الكبير للمياه المخزنة في السد -والذي يمارس ضغطا إضافيا على قشرة الأرض- وتسرب الماء إلى خطوط الصدع.

شاركها.
Exit mobile version