ما إن ينجح المجتمع البحثي في تطوير مضاد حيوي جديد للتعامل مع البكتيريا حتى تقوم البكتيريا بعد مدة من الزمن بتشكيل مقاومة لهذا الدواء، فيما يشبه لعبة “القط والفأر” بين الطرفين.

ولكن فريقا بحثيا دوليا يقوده باحثون من جامعة “تكساس إيه آند إم” الأميركية، بات على بعد خطوة واحدة من حسم تلك اللعبة لصالح المريض، بفضل عائلة جديدة من البوليمرات تستهدف غشاء هذه الكائنات الحية الدقيقة، بما يؤدي إلى قتل البكتيريا دون إحداث مقاومة للدواء.

وأصبحت البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية تشكل خطرا متزايدا على الصحة العامة، حيث تتسبب كل عام بشكل مباشر في وفاة 1.27 مليون حالة، بالإضافة إلى تسببها بشكل غير مباشر في وفاة 4.95 ملايين حالة، وذلك وفق دراسة لدورية “ذا لانسيت” الشهيرة نشرت في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

دراسة عالمية: تلوث الهواء مرتبط بزيادة مقاومة المضادات الحيوية لدى الإنسان

وتشكل البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية بعده طرق، هي:

  • تعديل الهدف: فهي تُحور مادتها الوراثية مما يؤدي إلى تغيير الموقع المستهدف، حيث يرتبط المضاد الحيوي عادة بالعمليات الخلوية ويعطلها، ويمنع هذا التغيير المضاد الحيوي من التفاعل بفعالية مع الهدف المقصود، مما يجعله غير فعال.
  • مضخات التدفق: فبعض البكتيريا يقوم بتطوير بروتينات متخصصة تسمى مضخات التدفق التي تضخ المضادات الحيوية بشكل فعال إلى خارج الخلية البكتيرية، مما يقلل من تركيز الدواء داخل الخلية ويقلل من تأثيره.
  • نقل الجينات المقاومة: إذ يمكن للبكتيريا نقل المواد الوراثية -بما في ذلك الجينات التي تمنح مقاومة للمضادات الحيوية- إلى البكتيريا الأخرى من خلال آليات مثل الاقتران، وتسمح هذه العملية للجينات المقاومة بالانتشار بسرعة بين المجموعات البكتيرية.
  • التحلل الإنزيمي: فقد تنتج البكتيريا إنزيمات تقوم بتعديل المضادات الحيوية أو تدميرها كيميائيا قبل أن تتمكن من ممارسة عملها، وعلى سبيل المثال، تقوم إنزيمات “بيتا لاكتاماز” بتفكيك المضادات الحيوية من نوع البنسلين، مما يجعلها غير فعالة.
  • تكوين الأغشية الحيوية: فيمكن للبكتيريا أن تشكل أغشية حيوية واقية تعمل كدروع ضد المضادات الحيوية، مما يجعل من الصعب على الأدوية اختراق الخلايا البكتيرية والوصول إليها.
  • السكون أو النمو البطيء: فيمكن للبكتيريا أن تدخل في حالة سكون أو نمو بطيء، حيث تصبح أقل عرضة للمضادات الحيوية، لأن الأدوية تكون أكثر فعالية ضد الخلايا التي تنقسم بشكل نشط.

استهداف الغشاء البكتيري.. آلية مضمونة

ويعد استهداف الغشاء البكتيري باستخدام بوليمرات معينة فعالا ضد البكتيريا مع تقليل احتمالية مقاومة المضادات الحيوية لعدة أسباب، هي:

  • الاضطراب الجسدي: حيث تعمل البوليمرات عن طريق التعطيل الجسدي لغشاء الخلية البكتيرية، بدلا من استهداف عمليات داخلية محددة أو جزيئات داخل البكتيريا كما تفعل المضادات الحيوية التقليدية.
  • التفاعل غير النوعي: إذ تتفاعل البوليمرات مع الأغشية الدهنية التي تغلف الخلايا البكتيرية، مما يسبب ضررا على السلامة الهيكلية، ويؤدي هذا الاضطراب إلى تسرب محتويات الخلية وموت الخلايا في النهاية.
  • الطبيعة المعقدة: فالغشاء البكتيري هيكل حاسم ومعقد لبقاء البكتيريا، ويؤثر استهداف هذه البنية بالبوليمرات على جوانب متعددة من الخلية بدلا من هدف واحد محدد، مما يجعل من الصعب على البكتيريا تطوير المقاومة.
  • معدل طفرة منخفض: آلية تعطيل الغشاء لا تؤدي بطبيعتها إلى حدوث طفرة بكتيرية بمعدل مرتفع مقارنة بالمضادات الحيوية التقليدية، وغالبا ما تؤدي الطفرات في المواقع المستهدفة للمضادات الحيوية إلى المقاومة، ومع ذلك، فإن تغيير الغشاء بطريقة تتجاوز عمل هذه البوليمرات هو أكثر تعقيدا وأقل احتمالا لحدوثه بسرعة.

محاولات سابقة.. مشكلة شائعة

ورغم أن البوليمرات تُظهر فعالية في حسم لعبة “القط والفأر” بين الأدوية والبكتيريا، فإن مشكلة شائعة حالت دون توظيفها في إنتاج الأدوية حتى الآن. ويزعم الباحثون في الدراسة الجديدة التي نشرتها دورية “بروسيدنجز أوف ذا ناشيونال أكاديمي أوف ساينس”، أنهم نجحوا في التغلب عليها.

والأسلوب الشائع لتصنيع البوليمرات المستخدمة في الأدوية، يعتمد على طريقة “التكثيف المتعدد” التي تحد من التحكم الدقيق في تصميمها بشكل يسمح بالإنتقائية، وهذه الانتقائية تجعلها تفرق بين البكتيريا والخلايا البشرية عند استهداف الغشاء الخلوي، وهي المشكلة التي نجح الباحثون في حلها عبر تصميم البوليمرات بطريقة جديدة.

والتكثيف المتعدد، هو طريقة لتصنيع البوليمرات عن طريق ضم المونومرات (وهو جزيء يشكل الوحدة الأساسية للبوليمرات) من خلال تفاعل التكثيف، والذي يتضمن عادة إزالة جزيئات صغيرة مثل الماء أو الكحول أو كلوريد الهيدروجين. وتحدث هذه العملية على خطوات، حيث تتفاعل المونومرات ذات المجموعات الوظيفية (على سبيل المثال، مجموعات الهيدروكسيل والكربوكسيل) لتكوين سلاسل بوليمر.

وتبدأ عملية التصنيع بتنشيط المونومر، حيث تخضع المونومرات ذات المجموعات الوظيفية التفاعلية للتنشيط، غالبا من خلال التسخين أو وجود محفز، ثم تتفاعل المونومرات المنشطة مع بعضها البعض، وتشكل روابط تساهمية بين مجموعاتها الوظيفية، وعندما تتشكل الروابط يتم التخلص من الجزيئات الصغيرة مثل الماء أو المركبات الأخرى كمنتجات ثانوية، وتستمر سلاسل البوليمر في النمو مع تفاعل المزيد من المونومرات، حتى يتم تحقيق طول السلسلة المطلوب.

غير أن أبرز عيوب تلك الطريقة هو “نقص التحكم”، فغالبا ما يفتقر”التكثيف المتعدد” إلى التحكم الدقيق في طول السلسلة، مما يؤدي إلى توزيع واسع للوزن الجزيئي وتباين خصائص البوليمر، وهي المشكلة التي عالجها الباحثون باستخدام تقنية “البلمرة المتحكم بها”.

وتشير تقنية “البلمرة المتحكم بها” إلى مجموعة من التقنيات المستخدمة في كيمياء البوليمر للتحكم بدقة في نمو سلاسل البوليمر، مما يؤدي إلى أنواع ذات هياكل محددة جيدا، وأوزان جزيئية يمكن التحكم فيها، ووظائف محددة.

فعالية أكبر.. بوليمر جديد

وإذا تخيلنا عملية بناء سلاسل البوليمر بأنها تشبه “بناء قطار لعبة بمكعبات خاصة”، فإنه باستخدام”البلمرة المتحكم بها” أنشأ الباحثون نوعا جديدا من مسارات القطارات عبر تصميم كتلة خاصة يمكن ربطها معا بسهولة عدة مرات لإنشاء مسار طويل، وكل كتلة لها شحنة خاصة تجذب بعضها البعض مثل جذب المغناطيس، مما يجعل المسار كله من نوع واحد من الشحنات، وتم استخدام محفز فريد وجديد يسمى “أكواميت” -الذي يشبه الغراء السحري- للصق هذه الكتل معا.

ويقول كوينتين ميشوديل الأستاذ المساعد في قسم الكيمياء بجامعة “تكساس إيه آند إم” في بيان صحفي نشره الموقع الإلكتروني للجامعة: إن “هذا الغراء مهم للغاية، لأنه يتحمل تركيزا عاليا من الشحنات، كما أنه قابل للذوبان في الماء، وهي ميزة غير شائعة في هذا النوع من العمليات”.

واختبر ميشوديل وفريقه البحثي البوليمر الجديد ضد نوعين رئيسيين من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، وهما “الإشريكية القولونية” و”المكورات العنقودية الذهبية”، وأثبت فعالية في استهدافهما، كما اختبر الباحثون أيضا سُمّية البوليمر ضد خلايا الدم الحمراء البشرية، وأعطى نتائج مشجعة للغاية.

ويهدف الفريق البحثي إلى تعزيز نشاط هذه البوليمرات ضد البكتيريا مع تحسين انتقائيتها للخلايا البكتيرية، ويقومون حاليا بتجميع إصدارات مختلفة من البوليمرات لتحقيق هذه الأهداف، ويخططون لإجراء تجارب على الجسم الحي في المستقبل القريب.

اختبارات طويلة المدى

ومن جانبه، يثني الأستاذ بكلية الصيدلة في جامعة بني سويف المصرية محمد منصور، على النتائج التي تحققت في هذه الدراسة على النطاق المعملي، ولكنه يشدد على أن البوليمر الجديد يحتاج إلى اختبارات طويلة المدى للتأكد من أن البكتيريا لن تطور مقاومة ضده.

ويقول منصور في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت” إن: “التأكد من هذه الحقيقة يحتاج إلى اختبارات طويلة المدى للتأكد من عدم تطوير مقاومة مع مرور الوقت، كما يجب التأكد أيضا من دقة البوليمرات في التمييز بين الخلايا البكتيرية والخلايا البشرية، وهذا أيضا سيحتاج إلى وقت طويل لإثباته”.

ويضيف أنه “إذا حُسم هذان الأمران، فإننا سنكون أمام اختراق مهم في حسم المعركة المستمرة بين الأدوية والبكتيريا”.

شاركها.
Exit mobile version