تخيل مجموعة من الأشخاص متشابكي الأيدي يتمايلون بلطف معا، لكن عندما يتعرضون للدفع فجأة يسارعون إلى ربط أذرعهم معا بقوة أكبر لتحمل الدفع، ويهتزون بشكل أسرع لمقاومة الاضطراب.

بالمثل وجد باحثون من مختبر التسريع الوطني “سلاك” التابع لوزارة الطاقة الأميركية، أن الدفعة التي تتلقاها ذرات الذهب عند تعريضها لنبضات ليزر مكثفة تساعد على تشديد الروابط بين جزيئاته واهتزازها بشكل أسرع، وذلك على خلاف ما هو شائع بالنسبة للمواد الأخرى.

وبينما تنهار عادة العديد من المواد مثل السيليكون عند تعريضها لليزر، لاحظ الباحثون في الدراسة الجديدة المنشورة بدورية “ساينس أدفانسيس”، أن الذهب يصبح أكثر صلابة وأكثر مرونة، وهي الظاهرة التي تُعرف باسم “تصلب الفونون”.

ويشير “الفونون” إلى الطاقة الاهتزازية التي تنتقل عبر مادة صلبة، فعندما تتعرض المواد لقوى خارجية أو تغيرات في درجة الحرارة، فإن الذرات الموجودة داخل المادة تهتز، ويمكن وصف هذه الاهتزازات من حيث “الفونونات”.

ويشير “تصلب الفونون” إلى ظاهرة يتغير فيها السلوك الاهتزازي للذرات داخل المادة استجابة للمحفزات الخارجية، مثل نبضات الليزر المكثفة، ويؤدي هذا التغيير إلى زيادة صلابة المادة بسبب التغيرات في طريقة انتشار الفونونات عبر الشبكة البلورية.

ولعقود من الزمن ألمحت عمليات المحاكاة إلى احتمال حدوث هذه الظاهرة، لكن باستخدام مصدر الضوء المتماسك “إل سي إل إس” الخاص بمختبر التسريع الوطني “سلاك” تمكن الباحثون أخيرا من إثبات “تصلب الفونون” بشكل عملي.

لماذا مصدر الضوء المتماسك “إل سي إل إس”؟

مصدر الضوء المتماسك “إل سي إل إس” هو أقوى جهاز ليزر أشعة سينية في العالم، وهو فريد من نوعه من حيث آلية عمله التي تعتمد على الآتي:

  • تقنية ليزر الإلكترون الحر: فعلى عكس أجهزة الليزر التقليدية التي تستخدم المرايا لتضخيم الضوء الناتج عن الذرات أو الجزيئات، يَستخدم الجهاز حزما إلكترونية عالية الطاقة تنتقل بسرعة قريبة من سرعة الضوء، وتُسرّع هذه الإلكترونات من خلال مُسرع خطي للحصول على الطاقة.
  • توليد نبضات الأشعة السينية: فبمجرد تسريع الإلكترونات بشكل كاف تُوجه إلى مصفوفة مغناطيس طويلة متموجة، وفي الوضع المموج تضطر الإلكترونات إلى التأرجح ذهابا وإيابا، مما يؤدي إلى إصدار رشقات نارية مكثفة من الأشعة السينية في هذه العملية، وهذا الإشعاع متماسك، مما يعني أن الموجات المنبعثة من الإلكترونات الفردية متزامنة، وهو ما يؤدي إلى نبضات أشعة سينية مكثفة ومركزة للغاية.
  • طيف الأشعة السينية القابل للضبط: إحدى الميزات لجهاز مصدر الضوء المتماسك “إل سي إل إس” قدرته على إنتاج الأشعة السينية بنطاق واسع من الأطوال الموجية والطاقات، ويمكن للعلماء ضبط الطول الموجي لنبضات الأشعة السينية عن طريق ضبط طاقة شعاع الإلكترون أو قوة المجال المغناطيسي، وتسمح قابلية الضبط للباحثين بتكييف الأشعة السينية مع الاحتياجات المحددة لتجاربهم.
  • دقة الوقت فائقة السرعة: وهذا جانب آخر مهم، فنبضات الأشعة السينية التي يولدها مصدر الضوء المتماسك “إل سي إل إس” قصيرة للغاية ولا تدوم سوى “فيمتو ثانية”، ويسمح هذا المقياس الزمني فائق السرعة للعلماء بالتقاط لقطات للعمليات فائقة السرعة -مثل التفاعلات الكيميائية أو التغيرات في البنية الذرية- بتفاصيل غير مسبوقة.

من الإعداد إلى الإثبات

مرت عملية استخدام هذه الجهاز الفريد لإثبات السلوك المختلف للذهب عند تعرضة لليزر المكثف بعدة خطوات شرحها الباحثون في الدراسة، وهي:

  • الإعداد التجريبي:

بدأ الباحثون بإعداد أغشية ذهبية رقيقة لاستخدامها في التجارب، وصُممت لتكون رقيقة حتى تسمح بالتحكم الدقيق ومراقبة سلوك المادة تحت إثارة الليزر المكثف.

  • الاستهداف بنبضات الليزر الضوئية:

استخدم الباحثون نبضات الليزر الضوئية لتشعيع الأغشية الذهبية الرقيقة، وقدمت هذه النبضات من الليزرالطاقة المكثفة اللازمة لإثارة ذرات الذهب والحث على تصلب الفونون.

  • التقاط لقطات على المستوى الذري:

بعد تشعيع الأفلام الذهبية بنبضات ليزر بصرية، استخدم الباحثون نبضات الأشعة السينية فائقة السرعة الخاصة بجهاز مصدر الضوء المتماسك “إل سي إل إس” لالتقاط لقطات على المستوى الذري لكيفية استجابة المادة، وكانت هذه النبضات من الأشعة السينية قادرة على التقاط عمليات سريعة بشكل لا يصدق، مما سمح للباحثين بمراقبة سلوك ذرات الذهب بدقة عالية.

  • قياسات حيود الأشعة السينية:

استخدم الباحثون تقنيات حيود الأشعة السينية في جهاز مصدر الضوء المتماسك “إل سي إل إس” لقياس الاستجابة الهيكلية للذهب عند إثارته بالليزر. ويُعد حيود الأشعة السينية أداة قوية لدراسة ترتيب الذرات في المادة وكيفية تغيرها في ظل ظروف مختلفة. ومن خلال تحليل أنماط الحيود التي تنتجها نبضات الأشعة السينية، تمكن الباحثون من الحصول على نظرة ثاقبة إزاء الترتيبات الذرية واستقرار أغشية الذهب في ظل الظروف القاسية.

  • ملاحظة “تصلب الفونون”:

لاحظ الباحثون من خلال تجاربهم ظاهرة “تصلب الفونون” في الذهب، وتشير هذه الظاهرة إلى تقوية روابط المادة وزيادة طاقات الفونون عند تعرضها لنبضات ليزر مكثفة، ومن خلال ملاحظة التغيرات في السلوك الاهتزازي لذرات الذهب تمكن الباحثون من تقديم دليل ملموس على “تصلب الفونون” في الذهب عند تعرضه لظروف القاسية.

  • تحليل البيانات وتفسيرها:

وأخيرا حلل الباحثون البيانات التي جُمعت من تجاربهم لتفسير النتائج، وقارنوا ملاحظاتهم بالتنبؤات النظرية وعمليات المحاكاة السابقة للتحقق من صحة النتائج التي توصلوا إليها، وأكدت الأدلة التجريبية التي حصلوا عليها ظاهرة “تصلب الفونون” في الذهب، مما يشكل تحديا للمفاهيم السابقة، ويفتح آفاقا جديدة للبحث في علوم المواد.

3 تطبيقات محتملة

وعبر الباحثون في بيان صحفي أصدره مختبر التسريع الوطني “سلاك” التابع لوزارة الطاقة الأميركية، عن سعادتهم بما توصلوا له من نتائج،  ونقل البيان عنهم  ثلاثة تطبيقات هامة يمكن أن تخرج عن هذا الاكتشاف، وهي:

  • تقنيات محسنة في التصنيع بالليزر وتصنيع المواد: فيمكن أن يؤدي فهم كيفية استجابة المواد مثل الذهب لنبضات الليزر المكثفة على المستوى الذري، إلى تطوير تقنيات محسنة في التصنيع بالليزر وتصنيع المواد. فمن خلال الاستفادة من الأفكار المكتسبة من دراسة تصلب الفونون، قد يتمكن الباحثون من تعزيز دقة وكفاءة وموثوقية العمليات التي تنطوي على قطع وحفر وتشكيل المواد باستخدام الليزر.
  • تطوير مواد أكثر مرونة: يفتح اكتشاف تصلب الفونون في الذهب إمكانيات جديدة لتصميم مواد أكثر مرونة، فمن خلال تسخير الآليات الكامنة وراء هذه الظاهرة، قد يتمكن الباحثون من هندسة مواد ذات قوة ومتانة ومقاومة للظروف القاسية، ويمكن أن تجد هذه المواد تطبيقات في مختلف الصناعات، بما في ذلك الطيران والسيارات والإلكترونيات والبناء، حيث تعد المتانة والموثوقية من المتطلبات الحاسمة.
  • استكشاف ظواهر مماثلة في معادن أخرى: يعتقد الباحثون أن ظواهر مماثلة يمكن أن توجد في معادن أخرى، مثل الألمنيوم والنحاس والبلاتين، ويوفر المزيد من الاستكشاف لتصلب الفونون في هذه المواد رؤى قيمة عن سلوكها في ظل الظروف القاسية، ويمهد الطريق لتطوير مواد جديدة ذات خصائص مميزة، ويمكن أن يكون لهذه المعرفة آثار واسعة النطاق على مختلف التطبيقات التكنولوجية والتقدم العلمي.

أسئلة تحتاج إجابات

ومن جانبه، يثني الباحث في علوم المواد بجامعة الزقازيق المصرية خالد فرحات على ما توصل إليه الباحثون من نتائج، لكنه يرى من ناحية أخرى أنه ينبغي استكمال التجارب للإجابة على بعض الأسئلة، مؤكدا أن ذلك ضروري حتى يمكن توظيف الاكتشاف في العديد من التطبيقات.

ومن هذه الأسئلة التي يذكرها فرحات في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”، ما يتعلق بـ”إستراتيجيات التحسين والتحكم”، ويقول: “هل يمكن التحكم في تصلب الفونون أو تحسينه لتعزيز آثاره المفيدة في المواد”، مشيرا إلى أن الإجابة على هذا السؤال من شأنها أن تساعد على تخفيف التحديات أو القيود المحتملة في التطبيقات العملية.

ويوضح أن الباحثين بحاجة أيضا إلى الإجابة على سؤال يتعلق بـ”الاستقرار والموثوقية على المدى الطويل”، حيث يحتاج الباحثون إلى معرفة “كيف يؤثر تصلب الفونون على استقرار وموثوقية المواد على المدى الطويل في ظل ظروف التشغيل المختلفة”.

ويقول إن “التجارب التي تدرس استقرار وموثوقية المواد المعرضة لتصلب الفونون على مدى فترات طويلة من شأنها أن توفر رؤى حاسمة لتقييم جدوى ومتانة المواد في تطبيقات العالم الحقيقي”.

شاركها.
Exit mobile version