أجرى مشروع مرصد أفق الحدث أرصادا جديدة حققت أعلى دقة حصل عليها العلماء على الإطلاق في تصوير الثقوب السوداء، وذلك من خلال رصد الضوء الصادر من مراكز المجرات البعيدة بتردد حوالي 345 غيغاهرتزا.
ولفهم الأمر، يجب أن نتعرف على طبيعة الضوء، وهو ببساطة نوع من الإشعاع ينتقل على شكل موجات، وهي تشبه الموجات التي تراها تتحرك عندما ترمي حجرًا في بركة أو تشبه موجات البحر التي تتوالى على الشاطئ، وتسمى بالموجات الكهرومغناطيسية.
ولهذه الموجات خصائص عدة، منها ما يسمى بالتردد ويمثل عدد موجات الضوء التي تصل إلى الأرض في الثانية الواحدة.
وينطلق الضوء من أي مصدر سماوي، كالشمس أو بقية النجوم أو المجرات أو الثقوب السوداء، بترددات عدة، وكلما تمكن العلماء من التقاط صور في عدد أكبر وأكثر تنوعا من هذه الترددات، كانت النتائج أدق.
ويشبه ذلك أن تلتقط ثلاث صور لشخص ما، الأولى صورة ضوئية عادية، والثانية من مقراب رؤية ليلية، والثالثة عبر جهاز أشعة سينية في أحد المستشفيات، الصور الثلاث في نطاقات تردد مختلفة، وكل منها يعطي تفاصيل مختلفة، فالأولى تعطي تفاصيل الوجه والجسم، والثانية تبين قدر ما يصدره هذا الشخص من حرارة، والثالثة تخترق جلده وعضلاته لتبين شكل عظامه، والصور الثلاث في مجموعها تعطي بيانات أدق عن هذا الشخص مقارنة بالصورة الضوئية فقط.
تفاصيل غير مسبوقة
وبحسب الدراسة الجديدة، التي قادها علماء من مركز الفيزياء الفلكية في جامعة هارفارد ونشرت في دورية “ذا أسترونوميكال جورنال”، فقد تم دمج الصور الملتقطة في هذا التردد الجديد مع الصور الموجودة للثقوب السوداء الفائقة الكتلة في قلب المجرة مسيية 87 وفي قلب مجرتنا درب التبانة (الثقب الأسود المسمى الرامي أ*) بتردد أقل يبلغ 230 غيغاهرتزا.
وبحسب بيان صحفي رسمي من مرصد أفق الحدث، فإن هذه النتائج الجديدة لا تجعل صور الثقوب السوداء أكثر وضوحًا بنسبة 50% فحسب، بل تنتج أيضًا مشاهد متعددة الألوان للمنطقة الواقعة خارج حدود هذه الوحوش الكونية مباشرة.
وتوضح الدراسة أن هذه الصور الجديدة تكشف عن خصائص جديدة للثقوب السوداء، خاصة عند الأطراف، التي كانت ضبابية في الصور السابقة.
ولفهم قدر التفاصيل الإضافية التي سيحصل العلماء عليها، فكّر فيما حدث حينما انتقلت الصور الفوتوغرافية من مرحلة الأبيض والأسود إلى الألوان، فقد أضاف ذلك قدرا هائلا من التفاصيل لكل صورة بلا شك.
وعلى سبيل المثال، تسمح الأرصاد في هذا التردد الجديد بدراسة أفضل لسلوك الغاز الساخن الذي يدور حول الثقب الأسود، والحقول المغناطيسية التي تغذي الثقوب السوداء وتطلق نفاثات قوية تتدفق عبر مسافات شاسعة إلى خارج المجرات.
والواقع أن العلماء لا يصورون الثقب الأسود نفسه، لأنه ببساطة لا يشع أي ضوء أو حرارة في أي نطاق ممكن، إلا أن المادة المتزاحمة التي تدور حول الثقب الأسود في حلقات ضخمة تطلق من الإشعاع ما يمكّن العلماء من رصدها، وهي تلك الحلقة التي نراها حول الثقب.
الأرض مرصد كبير
ولكي يتمكن مرصد أفق الحدث من التقاط صور بهذه الدقة لأجرام على مسافات شاسعة، فإنه يجمع البيانات من تلسكوبات تقع على مسافات متباعدة حول العالم، منها مصفوف مرصد أتكاما المليمتري/تحت المليمتري الكبير شمالي تشيلي، وتجربة مستكشف أتاكاما (أبيكس) في المنطقة نفسها، إلى جانب مراصد أخرى في هاواي وإسبانيا وجرينلند.
يجعل ذلك كوكب الأرض نفسه مرصدا كبيرا، ويشبه الأمر أن تمتلك مجموعة مكونة من 8 من أجهزة البيانو، كل واحد منها يحوي عددا من المفاتيح التالفة المختلفة عن الآخر، وكل من البيانوهات الثمانية يعزف اللحن نفسه، لتكن السيمفونية التاسعة لبيتهوفن مثلا.
في هذه الحالة، فإنه على الرغم من أن الاستماع لبيانو واحد منها قد لا يُمكّنك من التعرف إلى اللحن بسهولة لأنه سيظهر متقطعا وغير واضح، فإن جمع البيانات من البيانوهات الثمانية ودمجها معا سيمكنك من الاستماع لصورة كلية شبه كاملة من تاسعة بيتهوفن.
هذا هو ما يقوم به مرصد أفق الحدث، حيث تجمع البيانات من ثمانية مراصد حول العالم وتدمج معا لإظهار صورة واحدة متكاملة.
ويعتقد العلماء أنه مع إطلاق مشروع الجيل القادم المخطط له من مرصد أفق الحدث والذي سيضم مراصد جديدة في مواقع جغرافية محسنة ويعزز المحطات الحالية من خلال ترقيتها جميعًا للعمل على ترددات متعددة بين 100 غيغاهرتز و345 غيغاهرتزا، فمن المتوقع أن تزيد دقة البيانات بمقدار 10 أضعاف، مما يمكن العلماء ليس فقط من إنتاج صور أكثر تفصيلاً وحساسية، ولكن أيضًا إنتاج أفلام متحركة.