لطالما كانت الطبيعة مصدر إلهام عميق في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتات. ويأتي أحد أحدث التطورات في هذا المجال من دراسة القدرات الملاحية التي تمتلكها بعض أنواع الحشرات مثل النمل، فقد نجح الباحثون في تطوير نظام متطور للملاحة الآلية بمحاكاة الإستراتيجيات التي يعتمد عليها النمل في تحديد مساراته وقطع مسافات طويلة من دون أن يضلّ طريقه.
ومن المتوقع، بحسب مؤلفي الدراسة الجديدة التي نشرت حديثا في دورية “ساينس” العلمية، أن تؤدي هذه المحاكاة الحيوية إلى إحداث ثورة في قدرات الروبوتات الصغيرة المستقلة على التنقل وسط الفضاءات الشاسعة والمعقدة، بما يجعلها أكثر كفاءة وموثوقية في تطبيقات مختلفة.
النمل بطل الملاحة الدقيقة
يشتهر النمل بقدرته على التنقل لمسافات طويلة بدقة مذهلة على الرغم من صغر حجمه واتساع الفضاء الذي يتحرك فيه. وتنبع هذه القدرة من مزيج من الإستراتيجيات السلوكية المتطورة والتكيفات البيولوجية التي تتيح له تحديد موقعه وسط هذا الفضاء واختيار مساره بكل دقة.
وقد أظهرت دراسات سابقة أن النمل يستخدم نظام ملاحة دقيقا يطلق عليه العلماء “نظام تكامل المسار الداخلي”، ويتضمن تحديث موقعه باستمرار بالنسبة إلى عشه من خلال “تذكر” المنعطفات والالتواءات التي اتخذتها وعدد الخطوات التي قطعها لاستخدامها في تحديد أسرع طريق للعودة بيسر حتى لو كان مساره معقدا وطويلا.
كما يتمتع النمل بمهارة التعرف على المعالم على طول مساراته وتذكرها، ومن ثم إنشاء خرائط ذهنية تساعده على العودة إلى قراه أو إلى مصدر الغذاء. وتستخدم بعض أنواع النمل موقع الشمس كبوصلة لضبط اتجاهها وفقا للوقت من اليوم، وتمتلك هذه الأنواع ساعة داخلية تساعدها على حساب حركة الشمس.
وفضلا عن كل ذلك، يترك النمل خلال تنقله مسارات فيرمونية، وهي علامات كيميائية يفرزها من غدده ترشد بقية أفراد المجموعة إلى مصادر الغذاء. وتتميز هذه المسارات الكيميائية بكونها ديناميكية ومتغيرة، إذ تتزايد قوتها أو تتناقص حسب تواتر حركة النمل، فيساعد ذلك في تحديد أفضل المسالك الممكنة بشكل فعال.
ملاحة آلية متطورة
بدراسة هذه الإستراتيجيات الملاحية، طور باحثون من جامعة دلف الهولندية خوارزميات وأنظمة تعمل على تعزيز القدرات الملاحية للروبوتات الطائرة الصغيرة والخفيفة الوزن تسمح لها بالتنقل المستقل دول تدخل مباشر من الإنسان.
وبحسب بيان نشر على موقع الجامعة، فقد جهز فريق البحث طائرة صغيرة من دون طيار، من طراز “كريزي فلاي” وتزن 56 غرامًا، بخوارزميات تحاكي نظام تكامل المسار لدى النمل وتمكنه من تحديد موقعه بالنسبة إلى نقطة البداية، بما يسمح بتخطيط المسار بكفاءة وتتبع حركة تنقله بصفة دقيقة.
وتقوم هذه الطائرة بتصوير لقطات سريعة من محيطها بانتظام وتسجيلها في الذاكرة لاتخاذها كمعالم يمكن الاهتداء بها في تحديد مسارها، كما يفعل النمل.
يقول توم فان ديك، المؤلف الأول للدراسة، في تصريح حصلت عليه الجزيرة نت، “لكي تكون هذه الإستراتيجية فعالة يجب أن يكون الروبوت قريبًا بدرجة كافية من موقع اللقطة، ومن ثم يجب استخدام عدد كافٍ من اللقطات السريعة”، مضيفا أن استخدام عدد كبير جدا من اللقطات السريعة يؤدي إلى استهلاك كبير للذاكرة، وعادة ما كانت الأعمال السابقة في هذا المجال تتضمن التقاط صور متقاربة للغاية، بحيث يتمكن الروبوت من الانتقال البصري من لقطة إلى التي تليها.
ويقول جويدو دي كرون، أستاذ الطائرات من دون طيار والمؤلف المشارك في الدراسة، “إن الفكرة الأساسية التي تقوم عليها إستراتيجيتنا هي إمكانية تباعد اللقطات بشكل أكبر إذا تحرك الروبوت بين اللقطات بناءً على قياس المسافة، وستكون هناك عملية توجيه ما دام الروبوت يقترب بما يكفي من موقع اللقطة”.
وقد أتاحت الإستراتيجية الجديدة للطائرة من دون طيار التنقل لمسافات تصل إلى 100 متر باستخدام ذاكرة بحجم 1.16 كيلو بايت فقط.
تطبيقات واسعة
وبحسب الباحثين، فإن الروبوتات الصغيرة المستقلة ذات القدرات الملاحية المحسنة يمكن أن يكون لها العديد من التطبيقات مثل تحديد موقع الناجين ومساعدتهم إثر حدوث الكوارث الطبيعية، ورسم خرائط للمناطق الخطرة، وتسليم الإمدادات في المناطق المنكوبة حيث يكون الوصول البشري محدودًا.
ويمكن للروبوتات المجهزة بهذا النظام الملاحي المتقدم استكشاف مناطق نائية واسعة ومراقبتها بكفاءة، وجمع البيانات عن الظروف البيئية والحياة البرية وتغيرات النظام البيئي فيها من دون إشراف بشري مستمر. كذلك تستطيع التنقل عبر الحقول الزراعية الكبيرة، وأداء مهام مثل الزراعة ومراقبة صحة المحاصيل والحصاد بدقة وكفاءة أكبر.
وفي البيئات الحضرية المعقدة والبيئة الصناعية، يمكن لهذه الروبوتات التنقل في الأماكن المزدحمة، وأداء مهام الصيانة، وتسليم البضائع بدقة وموثوقية أفضل.