هل هذه هي نهاية العالم يا جان مارك؟

إذا كان الحظ من نصيبنا، فليس ذلك على الفور!

هكذا اختتم كل من الكاتب الفرنسي جان مارك جانكوفيسي والرسام كريستوف بلان كتابهما “عالم غير منته”، وهو الكتاب الذي بيعت منه نحو مليون نسخة في فرنسا وحدها بحلول شهر يناير/كانون الثاني من العام الجاري.

وفي السابع عشر من مايو/أيار الماضي، أقامت دار الفنك المغربية حفل توقيع النسخة العربية من هذا الكتاب الذي عمل على ترجمته الكاتب والمهندس معاذ زيادي مدير المشاريع الأوروبية في مجموعة ويستفيلد، ضمن فعاليات معرض الرباط الدولي للكتاب.

تجربة كتابية مبتكرة في العلوم

فور سماعي عن كتاب “عالم غير منته”، تواصلت مع الكاتب المغربي معاذ زيادي للتعرف أكثر إلى فكرته، خاصة أنه الكتاب العلمي الأول الذي أطّلع عليه يناقش قضية علمية كبرى وهي قضية المناخ، بأسلوب القصص المصورة المعروف بين الجمهور باسم “كومكس”.

وعمل على تأليف الكتاب شخصان: الفرنسي جان مارك جانكوفيسي المهندس والأستاذ الجامعي المهتم بقضايا المناخ وصاحب ابتكار “حساب بصمة الكربون” التي تهدف إلى حساب كمية الغازات الدفيئة الناتجة من النشاط البشري مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان.

أما الثاني فهو الفرنسي كريستوف بلان الرسام وكاتب القصص المصورة الذي نشر عدد غير قليل من القصص ونال جوائز عدة.

وفي مقدمة الكتاب يشرح المغربي معاذ زيادي سبب نقله هذا العمل إلى العربية، موضحا أن “مواضيع الكتاب مثيرة ومستفزة ومتعددة المشارب”، إلى جانب “تقديم الكتاب رسالة جريئة للكارثة المناخية التي نعيشها ولا يزال كبار المسؤولين ورؤساء الشركات الكبرى لا يكترثون بها”.

بداية غير متوقعة

توقعتُ أن يبدأ الكتاب -كما هو الحال في معظم المقالات المرتبطة بموضوع المناخ- بشرح بعض المصطلحات الأساسية، مثل “اتفاقية باريس” و”التكيّف مع المناخ” و”بصمة الكربون”، وهو الأمر الذي لم يحدث.

بدأ الكتاب بتساؤل الرسام بلان عن حقيقة تغير المناخ الذي تعانيه باريس، وأشار إلى بحثه عن مزيد من التفاصيل حتى عثر على محاضرات جانكوفيسي المتعلقة بمشكلة المناخ، ثم تحدث عن اللقاء بين الاثنين، وقدّم تعريفا عاما بجانكوفيسي.

الغريب -والمثير أيضا- أن رحلة بلان وجانكوفيسي بدأت بشرح مفهوم الطاقة، وتأثير هذه الطاقة في مختلف جوانب حياتنا إلى الحد الذي يمنعنا من الاستغناء عنها.

حضارة استهلاكية

في إطار هذه الرحلة، طرح الكتاب عددا كبيرا من الرؤى المتعلقة باستخدام الطاقة، وكيف اختلف اعتمادنا عليها بين الماضي والحاضر.

وتمثلت أهم هذه الرؤى في خطورة النمط الاستهلاكي الذي ننتهجه في حياتنا اليومية على مشكلة التغير المناخي، فالمشكلة لا ترتبط فقط باستغلال النفط والفحم وغيرهما من أنواع الوقود الأحفوري، إنما تتعلق بكيفية استخدامنا لها.

ولشرح هذه الفكرة لجأ الكاتب إلى ذكر أمثلة عديدة توضح عدم انتباهنا للقدر الذي نستخدمه من الطاقة يوميا، فأوضح أن صناعة الملابس تتضمن عددا كبيرا من الخطوات، منها استخدام حصّادات القطن والجرارات الزراعية والشاحنات التي تنقل القطن إلى مصانع الغزل، ومصانع المواد الكيميائية التي تدبغ الملابس وتُلونها، والاعتماد على مواد صناعية مشتقة من النفط وتستدعي نقله من المنصات النفطية الموجودة في البحار إلى محطات التكرير.

ولسد حاجات الناس اليومية في مختلف أنحاء العالم، تجري العمليات السابقة -وعمليات تصنيع ونقل إضافية- يوميا تعتمد في الأساس على استخدام الطاقة بأشكالها المختلفة، خاصة الوقود الأحفوري، الأمر الذي أثر في مناخ كوكبنا جذريا منذ بداية عصر الثورة الصناعية في أوروبا.

صناعة الملابس تتضمن عددا كبيرا من الخطوات استعرضها الكتاب بأسلوب شائق (الجزيرة).

وهْم الطاقة النظيفة

خلال رحلة الكاتب والرسام الغنية بالمعلومات، استعرض الكتاب مفهوما شديد الأهمية، وهو مفهوم الطاقة النظيفة أو المتجددة، وأوضح بما لا يدع مجالا للشك عدم وجود “طاقة نظيفة ولا قذرة”، إنما تعتمد مدى نظافة هذه الطاقة على القدر المستخدم منها.

واستنتج الكاتب أن الدعوة إلى الاعتماد كليا على الطاقة المتجددة أمر غير واقعي إذا ما استمر انتهاجنا أسلوب الحياة نفسه الذي نعيشه، فالطاقة المتجددة ذاتها غير دائمة (طاقة الرياح والطاقة الشمسية لا يتوفران دائما)، ويستدعي إنتاجها وتخزينها ونقلها إنتاج كمية ضخمة من الكربون، لأن هذه العمليات تتطلب استخدام الوقود الأحفوري.

هنا تتلاقى هذه الفكرة مع ضرورة تغيير النمط الاستهلاكي الذي تحدثنا عنه سابقا، فالمشكلة بالفعل ليست مصدر حصولنا على الطاقة، بل هي تكمن في استغلالنا لهذه الطاقة بكميات ضخمة متزايدة.

الطاقة المفرطة تغير حياتنا

تحدث الكتاب أيضا عن عدد من القضايا المصاحبة لنمط استهلاك الطاقة الذي نتبعه حاليا، منها مثلا تأثيرها في تغيير نوع الأعمال التي نمارسها، فمع وفرة الطاقة اتجه البشر إلى الأعمال الخدمية، وأهملوا الأعمال الزراعية والصناعية التي صارت تعتمد بالكامل تقريبا على الآلات التي تستخدم الوقود الأحفوري، وهو أمر يؤذي البيئة قطعا.

من ناحية أخرى، أدت وفرة الطاقة إلى تطور عدد من الخدمات التي يحصل عليها البشر، أهمها الخدمات الصحية، مما أدى إلى زيادة عُمر السكان، وبالتالي زاد عدد السكان في كل أنحاء العالم، وهو ما يعني الحاجة إلى مزيد من الطاقة وما يصاحبها من زيادة تلوث البيئة.

وفي عالم استهلاكي محض، يذكر الكاتب أن مختلف الشركات لا تقدم سوى حلول “ترقيعية” لا تتعلق بحل المشكلة، إنما تكتفي بتغيير واحد من عوامل الإنتاج إلى نمط قليل الضرر بالبيئة.

وعن ذلك الأمر يذكر جانكوفيسي مثالا طريفا عن مريض أخبره الطبيب بالتوقف عن تناول الكحول، إلا أن المريض زاد من تناوله، لكنه أضاف كوبا من عصير البرتقال مرة أسبوعيا.

بديل يخشاه الناس

في الشطر الأخير من الكتاب اقترح جانكوفيسي أن الحل الأولي الذي يجب أن تلجأ إليه الدول يتمثل في الاعتماد على الطاقة النووية، وهو طرح أسهم في توجيه سهام الانتقاد إلى الكاتب.

ويرى جانكوفيسي أن الطاقة النووية في حد ذاتها لا تؤدي إلى القدر نفسه من المخاطر البيئية التي يتسبب بها الاعتماد على الوقود الأحفوري. ويعود السبب الرئيسي في التخوف من هذه الطاقة -طبقا لرأيه- إلى الحملات السياسية التي انتهجها بعض القادة ممن استغلوا شعار “لا للطاقة النووية” منطلقا لحملاتهم الانتخابية.

ويمكننا أن نقول إن الحل المثالي لمشكلة المناخ يتمثل في عدد من النقاط المترابطة نلخصها فيما يلي:

  • تغيير النمط الاستهلاكي بالنسبة للجمهور.
  • تعديل النمط الاقتصادي الإنتاجي.
  • التحول التدريجي إلى الطاقات المتجددة.
  • الاعتماد على الطاقة النووية في أثناء هذا التحول.
  • سرعة تطبيق الخطوات السابقة.

التقشف الاختياري خير من الفقر الإجباري

“يهدف الكتاب إلى توضيح أن التقشف المتحكَّم فيه أفضل من الفقر الإجباري”.. هكذا بدأ مترجم الكتاب المهندس معاذ زيادي حديثه الخاص مع الجزيرة نت.

ويذكر زيادي أن الكتاب “واجه بالطبع عددا من الانتقادات من أولئك الذين لا يرغبون في خفض مستوى معيشتهم، كما انتقدته بعض الشركات فيما ذكره عن صعوبة الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة بالكامل، إلا أن هذه الانتقادات لم تؤثر سلبا في مصداقية جانكوفيسي أو في شعبيته بين المجتمعات العلمية والأوساط الشبابية”.

ويضيف: “لا يمكننا إنكار معاناة سكان الدول المصنِّعة والنامية ومشكلات اجتماعية وسياسية عديدة فلو انتهجنا سياسة التقشف الطاقي، لذا كان واجبا توعيتهم بشأن مشكلة المناخ وحلولها المقترحة، وهذا الكتاب يمثل دورا مهما في هذه التوعية”.

التكيّف مع المناخ فرصة نهوض دول عربية

ويرى زيادي أن المجتمعات العربية تمتلك فرصة كبرى تتعلق بتغيير نمطها الاستهلاكي ودخول “عصر ما بعد النفط”، فانتهاء مصادر الوقود الأحفوري أمر لا مفر منه، لذا يمثل الحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري والاتجاه إلى الطاقة النووية؛ بديلا مثاليا يسهم في تحرر الاقتصاد من النفط ومواكبة المتغيرات العالمية الطارئة في المستقبل.

وعن نفور سكان هذه الدول المحتمل من تغيير نهج استغلال الطاقة، يقول زيادي: “لا يقبل الإنسان بطبعه التقشف، وهو يسعى دائما إلى تحسين مستواه المعيشي، إلا أننا نعيش كارثة مناخية كبرى ستضر بنا وبمجتمعاتنا”.

ويرى زيادي أن قبول هذا التقشف الاختياري خلال الوقت الحالي وارد في مجتمعاتنا العربية التي تتكون غالبيتها من الشباب، بعكس أغلب الدول الصناعية المتقدمة، وإدراك هذه المشكلة والسعي إلى حلها مسؤولية تقع على عاتقهم، لأنهم -وأبناءهم- هم من سيحصد النتيجة.

التوعية مهمة إنسانية

ويتحدث زيادي عن سبب ترجمته كتاب “عالم غير منته” فيقول: “نبع اهتمامي بالهندسة المدنية من مرافقة والدي في أثناء زيارة الورشة الملحقة ببيتنا العائلي، فتوجهت لدراستها جامعيا، وفي العام 2015 طلبتْ شركتي إنجاز مشروع مخطط يسعى إلى الحد من انبعاثات الكربون المتعلقة بالأبنية التي تؤسسها، وشعرتُ أن هذه المهمة أضافت قيمة إنسانية لعملي، وتمكنت بالفعل من ابتكار وسيلة سهلة لحساب بصمة الكربون المرتبطة بمشروعات بناء المراكز التجارية”.

ويتابع: “لاحقا سمعت بقصة جانكوفيسي المصورة التي اطلعت عليها فوجدتها ماتعة، وانتهيت منها في جلسة واحدة، ورأيت أن الكتاب يهدف إلى طرح حلول لمشكلة المناخ في العالم الغربي، الأمر الذي دفعني إلى التساؤل: وماذا عن العالم العربي؟”.

وكخطوة مبدئية لترجمة الكتاب، تواصل زيادي مع جانكوفيسي رقميا، ولم يتوقع أن يحصل على رد نظرا لانشغال المهندس الفرنسي، ومع ذلك فوجئ “بالرد السريع على الرسالة، وترحيب جانكوفيسي بفكرة الترجمة إلى العربية”.

الإبداع عمل ودعم

واجه زيادي تحديا كبيرا أثناء إنتاج النسخة العربية من الكتاب، يقول: “بذلت جهدا كبيرا للبحث عن ناشرين في مصر والخليج العربي ولبنان، إلى أن صادفت دار الفنك المغربية التي قررت قبول المخاطرة”.

ويصف زيادي إنتاج الكتاب بالمخاطرة نظرا لارتفاع تكاليف طباعته، فإنتاج القصص المصورة يستدعي ميزانيات ضخمة، وهو الأمر الذي يمثل عائقا وحيدا أمام الإبداع في دول المنطقة، فالمجتمع العربي كما يقول “غني بالمبدعين من الكتاب والرسامين”.

وعن تأثير الأدب في السلوك العام يقول زيادي: “حقق عالم غير منته صدى واسعا في فرنسا، فقد قابلت شبابا توقفوا عن قيادة سياراتهم الخاصة واستخدموا الدراجات الهوائية والكهربائية، واتخذ آخرون القطار وسيلة للسفر بدلا من الطائرات، ولقي هذا الكتاب الأدبي نجاحا كبيرا مقارنة بالكتب البحثية التي نشرها جانكوفيسي”.

ويختتم زيادي حديثه موجها رسالة إلى المبدعين العرب “أتمنى أن يواصلوا مجهوداتهم رغم عدم توفر الدعم الكافي وانحسار عدد القراء، فحضارة الدول مقترنة بإنتاجها الأدبي، ولولا الأدب ما وصل العلم إلينا”.

شاركها.
Exit mobile version