يشهد حوض شرق البحر الأبيض المتوسط ​​نشاطا متزايدا للعواصف يؤثر على المناطق الساحلية الحضرية المكتظة بالسكان، التي لم تكن تاريخيا عرضة للفيضانات الكارثية.

وفي خريف عام 2023، ضربت العاصفة دانيال الساحل الشرقي لليبيا، مما تسبب في فيضانات مفاجئة غير مسبوقة مع حصيلة وفيات مأساوية وأضرار واسعة النطاق في البنية التحتية.

وقد كشفت دراسة حديثة بقيادة عصام حجي، العالم المصري والباحث في مختبر أنظمة الميكرويف وأجهزة الاستشعار في جامعة جنوب كاليفورنيا في 20 أغسطس/آب 2024 في دورية نيتشر كوميونيكيشنز، عن أسباب تفاقم التأثير الكارثي للفيضانات المفاجئة في مدينتي درنة وسوسة الساحليتين، حيث تعرض ما نسبته 66% و48% من سطحهما الحضري لأضرار متوسطة إلى عالية.

يقول حجي في تصريحات خاصة للجزيرة نت: “أوضحت دراستنا أن تآكل التربة في وادي درنة الذي سببته حالة الجفاف والتصحر التي سبقت العاصفة بفترات طويلة كانت عامل أساسي في القوة التدميرية للسيول”.

ويضيف حجي أن “الجفاف أدى إلى خلق أتربة كثيفة في وادي درنة حينما اختلطت بماء الأمطار، مما أدى إلى سيول طينية، وهي أكثر تدميرا للمنشآت من السيول المائية العادية، وهذا يعني أن خطر هذه السيول نشأ من حالة الجفاف الحاد وليس فقط عند سقوط الأمطار”.

 

استخدم القائمون على الدراسة منهجية استخدام صور رادار “سي سنتينل-1أ” في تقييم الأضرار الناجمة عن الفيضانات، هي تقنية تختلف عن الطرق التقليدية الأخرى في قدرتها على رصد نحر التربة، وهو تغير في السنتيمترات الأولى من السطح لا يُرصد بالصور العادية في كامل حوض وادي درنة، وليس فقط برصد حجم الدمار في المدينة التي تقع في مصب حوض طوله أكثر من 140 كيلومترا.

حوض شرق أوسطي مضطرب

على مدى العقود الماضية، حيرت تأثيرات هذه الظواهر المناخية المتطرفة العلماء، بسبب حدوثها النادر والافتقار إلى الملاحظات الميدانية نتيجة لانخفاض الكثافة السكانية في هذه المناطق الساحلية.

وظل تأثير هذه العواصف المتزايدة الشدة مجهول، حيث تركزت معظم الجهود على تحديد الأضرار في المناطق الحضرية المحلية، متجاهلة العوامل الفيزيائية الإقليمية التي تغير من حجم هذه الفيضانات المفاجئة.

ومن الجدير بالذكر أن نقاط الضعف في هذه السواحل الرملية القاحلة كانت قليلة، ولم ترتفع إلا بعد الزيادة الحادة الأخيرة في عدد السكان المحليين بسبب الحرب التي تسببت في نزوح السكان والهجرة من بلدان أفريقية أخرى، فضلا عن ارتفاع شدة الأعاصير المدارية. وقد خضعت تأثيرات هذه الأعاصير المدارية مؤخرا لاهتمام عام وعلمي.

وتتولد الأعاصير المدارية بشكل طبيعي خلال فصل الخريف، وتتشكل في حوض البحر الأبيض المتوسط،​​ ولكنها عادة ما تتبدد ويختفي أثرها. وقد لوحظت زيادة مدة وحجم هذه العواصف المدارية على مدى العقود الماضية، وانتقلت نحو السواحل الشرقية المنخفضة للبحر الأبيض المتوسط ​​في مصر وليبيا.

ويحذر حجي من ذلك قائلا في تصريحه: “خطر هذه العواصف يهدد كل المدن الساحلية في المناطق المنخفضة والجافة مثل سواحل ليبيا ومصر وقطر وعمان والإمارات”، ويضيف حجي أن “حجم الدمار الذي تولده هذه العواصف على منشآت البنية التحتية مثل الموانئ ومصافي تكرير النفط والغاز قد يتسبب في أزمة أبعد من حدود الدمار الملحوظ”.

خارطة ليبيا عليها مدينة درنة

رائحة الموت خلف العاصفة دانيال

في سبتمبر/أيلول 2023، تطورت العاصفة المدارية دانيال فوق البحر الأيوني في اليونان، واشتدت قوتها أثناء تحركها جنوبا عبر شرق البحر الأبيض المتوسط. تضخمت العاصفة بسبب المياه الدافئة الناتجة عن حرارة الصيف الشديدة في جنوب أوروبا في ذلك العام.

ووصلت العاصفة إلى الساحل الشمالي الشرقي لليبيا في العاشرة من سبتمبر/أيلول 2023، مع رياح شديدة بلغت سرعتها 120 كيلومترا في الساعة وأدت إلى 25 ساعة من الأمطار التراكمية التي بلغت 240-414 ملم في مدينة البيضاء الليبية.

إن معدل هطول الأمطار الذي تم رصده أعلاه أثناء وصول العاصفة إلى اليابسة يقترب من المتوسط ​​السنوي البالغ 270 ملم لهذه المنطقة. ورغم ندرة حدوث مثل هذه العواصف، فمن المعروف أن المنطقة تشهد عواصف مطيرة شديدة متقطعة وفيضانات مفاجئة خلال فصل الخريف.

والجدير بالذكر أنه على مدار الأعوام الـ80 الماضية، تم تسجيل 5 فيضانات مفاجئة في وادي درنة حدثت في أكتوبر/تشرين الأول 1942 وأكتوبر/تشرين الأول 1959 وأكتوبر/تشرين الأول 1968 ونوفمبر/تشرين الثاني 1986 وسبتمبر/أيلول 2011.

 

تسببت الظروف المناخية المائية المتطرفة التي أحدثتها العاصفة دانيال في حدوث فيضانات وتدفقات طينية في منطقة وصول العاصفة إلى اليابسة، والتي تتكون في المقام الأول من المراعي والتربة العارية.

ورغم محدودية البصمة الحضرية في منطقة وصول العاصفة، فقد لوحظت أضرار جسيمة في البنية التحتية، بما في ذلك تدمير 5% من شبكة الطرق، وتعذر الوصول إلى نصفها، وانهيار سدين، الأمر الذي تسبب في حدوث فيضان مفاجئ مميت عبر المدينة الواقعة على مخرج دلتا النهر، مما أدى إلى تدمير جزء كبير من مباني المدينة والبنية التحتية الحضرية والجسور، كما أدى إلى تراكم 8.8 ملايين طن من الحطام.

وقد أثرت العاصفة بشكل ملحوظ على مدينة درنة ومدن ساحلية أخرى، إذ طال الدمار 28% من المنازل في سوسة. كما شهدت البيضاء والمرج وشحات وتاكنس وبطة وطلميثة وبرسس وتوكرة والأبيار أضرارا جسيمة.

وبلغ إجمالي عدد الضحايا 5898 قتيلا و8 آلاف مفقود و44 ألفا و800 نازح و18 ألفا و838 منزلا متضررا أو مدمرا في كامل المنطقة الساحلية التي تشمل بنغازي والجبل الأخضر والمرج ودرنة. وتجعل هذه الأرقام العاصفة دانيال أعنف عاصفة في القارة الأفريقية منذ عام 1900.

يقول حجي: “ما أوضحته الدراسة هو أن قوة الأمطار ليست العامل الوحيد المؤثر على القوة التدميرية للسيول، ولكن أيضا عوامل الجفاف، كما أن السيول بعد فترات الجفاف تكون أكثر فتكا، لذا ندعو لإعادة تصميم الشريط الساحلي لعدة مدن عربية لمنع تكرار هذه الكارثة”.

ويختتم حجي تصريحه قائلا: “علينا أن ندرك أن هذه الكوارث لا تحدث بالمصادفة، بل تحدث نتيجة عدة أخطاء وإهمال عدة مؤشرات. نحن نحتاج لمنظومة رصد حديثة لهذه الكوارث، وأتمنى أن يكون ما حدث في درنة درس لنا جميعا، أن التغيرات المناخية القادمة ستكون لها عواقب قد تتخطى حجم النزاعات القائمة بمراحل”.

شاركها.
Exit mobile version