في وقت توجهت فيه الأنظار إلى الآثار الإنسانية الكارثية التي خلفها الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا وتركيا في السادس من فبراير/ شباط 2023، عمل باحثون في جامعة إسطنبول التقنية على دراسة علمية تبحث الأثر البيئي الناتج عن ذلك الزلزال، لتكشف حجم التلوث البيئي والتغير المناخي في المنطقة والذي يُتوقع أن يستمر لسنوات طويلة نتيجة زيادة الانبعاثات الغازية التي سببها الزلزال بشكل مباشر.

وفي الذكرى السنوية الأولى للزلزال التي مرت في فبراير/شباط الماضي، أجرى الباحث “عبد الله سكر” مع زملائه في قسم “هندسة الجيوماتكس” بجامعة إسطنبول التقنية دراسة في الولايات التركية الـ11 التي أصابها الزلزال لتحليل آثاره في جودة الهواء وحجم الملوثات الغازية في مناطق الزلزال.

ويختص سكر بتحليل بيانات الأقمار الصناعية التي تساعده على الكشف عن الآثار البيئية وحجم التغيرات المناخية، وكان عمل محللا للبيانات المكانية بين عامي 2019 و2021، ليتفرغ بعدها بالكامل للعمل البحثي في جامعة إسطنبول التقنية.

وفيما يلي حوار خاص أجرته “الجزيرة نت” مع سكر بشأن الدراسات التي يعمل عليها لتحليل أثر الزلزال والكوارث الطبيعية في التغير المناخي:

 

  • دائما ما تهتم الدراسات العلمية بمسببات الزلزال وحركة الصفائح أو بحساب حجم الدمار وتحديد الأبنية المتضررة بشكل أتوماتيكي، ولكنكم اتخذتم منحى مختلفا بإجرائكم دراسة تتحدث عن الأثر الخطير للزلازل على البيئة وبالتحديد الزلزال الذي ضرب تركيا في 6 فبراير/شباط 2023، فما هي أدوات البحث التي اعتمدتم عليها؟

ارتكزت الفرضية البحثية قبيل البدء بالدراسة على وجود علاقة مباشرة بين الملوثات الغازية في الغلاف الجوي والزلزال، ولاحقا أثبتت الدراسة صحة ما افترضناه. ونتيجة لدمار محطات قياس جودة الهواء الأرضية أو خروجها عن الخدمة، ارتكزت الدراسة على بيانات جوية من القمر الصناعي “سنتينل 5 بي” الذي أطلقته وكالة الفضاء الأوروبية عام 2017 لرصد جودة الهواء حول العالم، وتناولت الدراسة بشكل رئيسي الملوثات الغازية التالية:
أحادي أكسيد الكربون والميثان وثنائي أكسيد الكبريت وثنائي أكسيد النيتروجين والأوزون وفورمالدهيد، بالإضافة إلى مؤشر جوي خاص لقياس الجسيمات الصغيرة والدقيقة في الهواء مثل الغبار والدخان والرماد البركاني، والذي أعتقد أنه يسمى باللغة العربية “مؤشر الهباء الجوي”، وهو مقياس يُستخدم لقياس الجسيمات الدقيقة في الغلاف الجوي للأرض والتي من الممكن أن يكون مصدرها طبيعيا مثل العواصف الرملية والانفجارات البركانية والزلازل، أو بشريا مثل التلوث الناجم عن الأنشطة الصناعية والمركبات.

ويحسب هذا المؤشر باستخدام الأقمار الصناعية عبر رصد الأشعة فوق البنفسجية من الطيف الكهرومغناطيسي، ويعتبر هذا المؤشر مفيدا ومهما في رصد الجسيمات الدقيقة وفهم تأثيرها في جودة الهواء والطقس والمناخ، كما أن لهذه الجسيمات تأثيرا مباشرا في صحة الإنسان، إذ يمكنها التغلغل في أعماق الرئتين وتدخل حتى مجرى الدم.

  • وما أهم النتائج التي خرجتْ بها الدراسة؟

بعد قيامنا بجمع وتحليل البيانات القادمة من القمر الصناعي، قمنا بحساب متوسط مشاهدات كل شهر بين عامي 2019 و2022، وقارناها مع المشاهدات الشهرية في عام 2023. ومن المعروف أن الزلازل تترافق بانبعاثات كربونية مثل غازي “أحادي وثنائي أكسيد الكربون” ويكون مصدرها باطن الأرض، ولم يكن زلزال فبراير/شباط 2023 استثناء. واستمرت معدلات غاز “أحادي أكسيد الكربون” مرتفعة في الأيام التي تلت الزلزال مباشرة، ولكنها تراجعت لاحقا، وذلك لشبه انعدام النشاط الصناعي والبشري في المنطقة. وبالمثل لوحظ ارتفاع كبير بمعدلات غاز “ثنائي أكسيد النيتروجين” في يوم الزلزال ثم انخفض بشكل ملاحظ.

أما مؤشر “الهباء الجوي” فكان الأشد دلالة ووضوحا، فقد ارتفعت معدلاته بشكل كبير وحاد خلال الأشهر اللاحقة، وهذا متوقع وليس مستغربا على الإطلاق، ويعزى ذلك إلى استمرار أعمال إزالة الأنقاض لأشهر بعد الزلزال والتي تتسبب بطبيعة الحال بمزيد من الغبار والرماد.

تظهر الصورة أعلاه مؤشر الهباء الجوي "أريسول إندكس" والملتقط عبر القمر الصناعي "سنتينل 5 بي”، تمثل الأشكال في جانب الصورة الأيمن متوسط كل شهر بين أعوام 2019 و 2022، بينما تمثل الأشكال في جانب الصورة الأيسر القيم المقابلة في عام 2023. 
  • لم تتمكن فرق الإنقاذ من الوصول لكل الجثث تحت الركام، ونتيجة لطول عمليات البحث بالطبع بقيت بعض الجثث تحت الأنقاض وربما تحللت، فما أثر ذلك على البيئة؟

نعم، يترافق الزلزال أيضا مع انبعاثات من غاز “الميثان”، ولكن بنسب أقل من غاز “أحادي وثنائي أكسيد الكربون”، ومع كل الأسى فإن تحلل هذا العدد الكبير من جثث الضحايا قد ساهم في ارتفاع معدلات غاز الميثان في عموم مناطق الزلزال بشكل حاد، وخصوصا ولاية “كهرمان مرعش”، حيث تكاد تكون نسب الميثان في وسط المدينة معدومة خلال الفترة الزمنية بين 2019 و2022. ولوحظ استمرار وجود غاز الميثان في الغلاف الجوي للمنطقة لأشهر بعد الزلزال.

  • وفق البحث الذي قمتم به، ما أهم الآثار البيئية والصحية التي ستلحق بالمنطقة والبشر؟

فضلا عن دورها في تعزيز التغير المناخي، قد يكون أهم أثر مباشر على البيئة للغازات الدفيئة والملوثات الجوية هو ارتفاع درجات الحرارة، كما نتذكر أن الزلزال ترافق مع ظروف مناخية شتوية قاسية، ولكن درجات الحرارة في شهر مارس/آذار الذي تلا الزلزال شهدت ارتفاعا إلى ما فوق معدلاتها المتوسطة بما يزيد عن درجتين مئويتين وبما يقارب 6 درجات عن السنة التي سبقتها (أي عام 2022).

وتعتبر الأمراض التنفسية ومشاكل الجهاز التنفسي من أبرز الآثار السلبية المباشرة للملوثات الجوية على صحة الإنسان. وبطبيعة الحال يختلف الوقت المتطلب لمنطقة ما لتطهير جوها من ملوثات الهواء، وذلك وفقا لنوع الملوثات ومصادرها والظروف الجوية والطبيعة الجغرافية للمنطقة ومدى جدية وفعالية تدابير مكافحة التلوث، وقد تصل هذه المدة في بعض الأحيان إلى بضع سنوات. ولكن الخطير في الأمر أن هذه الملوثات لن تبقى ثابتة فوق منطقة الزلزال، بل تتحرك وفقا لاتجاه وسرعة الرياح في المنطقة، ووفقا لنتائج دراستنا فإنه تبين أن اتجاه الرياح كان إلى الشمال.

  • من وجهة نظر خبير، ما الخطوات التي ينبغي على الدول والحكومات اتباعها في المناطق المهددة بخطر الزلازل أو التي تعرضت بالفعل للزلازل للحد من التغيرات المناخية وتراجع جودة الهواء؟

التخطيط والتوسع العمراني الآمن البعيد عن المناطق المعرضة لخطر الزلازل، بالاضافة إلى تعزيز معايير وأكواد البناء من خلال تعزيز البنية التحتية المقاومة للزلازل والتشجيع على استخدام مواد منخفضة البصمة الكربونية في البناء.

ويتوجب على الدول حماية النظم البيئية مثل الغابات، والتشجيع على الزراعة المستدامة، وإدارة الموارد المائية بكفاءة. بالإضافة إلى الاستثمار في موارد الطاقة المتجددة، وكذلك تعزيز الاستعداد المجتمعي لمواجهة الكوارث الطبيعية من خلال التعليم والتدريب وتوفير الموارد للحالات الطارئة.

  • تحدثت في الدراسة عن أثر الزلزال على التغير المناخي، ولكن هل هناك مؤشرات على إمكانية تعرض تلك المناطق لزلزال جديد بفعل التغير المناخي؟

القول بأن هناك تأثيرا مباشرا للتغير المناخي على الزلازل غير دقيق تماما، ويحتاج إلى بعض التوضيح. الأكيد أن الزلازل ناتجة عن حركة الصفائح التكتونية والعمليات الجيولوجية داخل الأرض وليس بسبب التغيرات المناخية، باستثناء بعض الزلازل الصغيرة، وأؤكد؛ الزلزال الصغيرة وفي أماكن محددة، ويكون ذلك نتيجة لتأثير ذوبان الأنهار الجليدية وارتفاع مستوى البحر وازدياد الضغط الجوي.

وأما في ما يخص تأثير الزلازل على التغير المناخي؛ ففي بعض الأحيان تترافق الزلازل بانبعاثات غازية من القشرة الأرضية مثل “ثنائي أكسيد الكربون”، لكن هذه الكميات لا تعتبر كبيرة بما يكفي لتحدث تغييرا ملموسا في المناخ على مستوى العالم، وغالبا ما تكون هذه الانبعاثات صغيرة مقارنة بالمصادر الأخرى لهذه الغازات، مثل حرق الوقود الأحفوري.

ومن المهم إدراك أن التغيرات المناخية الحادة والمتسارعة التي نشهدها حاليا تُعزى بشكل أساسي إلى النشاط البشري، خاصة انبعاثات الغازات الدفيئة من استخدام الوقود الأحفوري والتغيرات في استخدام الأراضي، وليس إلى النشاط الجيولوجي مثل الزلازل.

شاركها.
Exit mobile version