يشهد العالم موجات حر غير مسبوقة، وتعتبر إيران من الدول الأكثر تضررًا. في يوليو/تموز 2024، شهدت البلاد موجة حر شديدة حيث تراوحت درجات الحرارة بين 40 و50 درجة مئوية، مما كان له تأثير عميق على الحياة اليومية والبنية التحتية. وقد تفاقم هذا الحدث الجوي بسبب ظاهرة القبة الحرارية، مما أدى إلى مستويات حرارة غير مسبوقة أرهقت البنية التحتية الهشة بالفعل في إيران وتطلبت تدابير طارئة من الحكومة.
وارتفعت درجات الحرارة إلى ما يزيد على 45 درجة مئوية في العديد من المحافظات الإيرانية، حيث سجلت مدينة دهلران درجات حرارة أعلى من 48 درجة لمدة 25 يوماً وأعلى من 50 درجة لمدة 6 أيام. وشهدت المنطقة الجنوبية الغربية، بما في ذلك مقاطعة خوزستان، بعضًا من أعلى درجات الحرارة، والتي غالبًا ما تجاوزت 50 درجة مئوية.
وبحسب منصة “إلدورادو ويذر” المختصة بشؤون الطقس والمناخ فقد أصبحت مدينة زابل في محافظة سيستان وبلوشستان، المدينة الأكثر حرارة في العالم عصر الأحد 28 يوليو/تموز، حيث بلغت درجة الحرارة 49.6 درجة مئوية. واحتلت مدينة طبس المركز الثاني من بين أكثر المدن التي تشهد حرارة مرتفعة حول العالم.
تدابير حكومية وأزمة كهرباء
أعلنت الحكومة الإيرانية عطلة يومين لموظفي الحكومة والبنوك لحماية الصحة العامة والحفاظ على الكهرباء، حيث تسببت موجة الحر في ضغوط كبيرة على شبكة الكهرباء. وأعلن مصطفى رجبي مشهدي الرئيس التنفيذي بشركة “تفانير” الحكومية لتوليد الطاقة الكهربائية بأن استهلاك الطاقة الكهربائية هذا العام كسر معدلات استهلاك الطاقة للأعوام السابقة بحيث بلغ الاستهلاك 79 ألفا و189 ميغاوات خلال ذروة الاستهلاك بينما بلغ الاستهلاك الليلي للكهرباء 73 ألفا و62 ميغاوات.
ومع ارتفاع درجات الحرارة، بالإضافة إلى زيادة الاستهلاك من قبل العملاء المحليين والتجاريين، تواجه معدات توليد الكهرباء أيضًا مشاكل تقنية وتقل كفاءتها. ومع ارتفاع درجات الحرارة درجة واحدة، يزيد استهلاك الكهرباء في إيران بمقدار 1800 ميغاوات، وتنخفض القدرة الإنتاجية لمولدات الكهرباء بنحو 1500 ميغاوات. ولهذا السبب، أصبح من الصعب تزويد البلاد بالكهرباء، وفي بعض ساعات اليوم يواجه المواطنون انقطاع التيار الكهربائي لساعات متتالية.
واستجابة للحرارة الشديدة، نفذت الحكومة تدابير مختلفة للتخفيف من تأثيرها. وشملت هذه الإجراءات حث الناس على البقاء في منازلهم خلال ساعات الذروة من الحرارة، وتعديل ساعات عمل موظفي الحكومة لتبدأ السادسة صباحاً، ومعالجة العدد المتزايد من الأمراض المرتبطة بالحرارة من خلال توفير العلاج الطبي. وحذرت وزارة الصحة من مخاطر ضربة الشمس ونصحت الناس بتجنب التعرض لأشعة الشمس قدر الإمكان.
ما القبة الحرارية؟
القبة الحرارية ظاهرة جوية تتميز بنظام ضغط مرتفع مستمر يحبس كتلة من الهواء الساخن فوق منطقة معينة، مما يؤدي إلى فترات طويلة من درجات الحرارة المرتفعة بشكل مفرط.
ووفقًا لدراسة نشرتها الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي عام 2021، تتضمن هذه الحالة أن يعمل نظام الضغط العالي مثل الغطاء في الغلاف الجوي، مما يمنع الهواء الساخن من الارتفاع والتبدد.
وبدلاً من ذلك، يتم دفع هذا الهواء الساخن إلى الأسفل، حيث يتم ضغطه ويسخن بشكل أكثر. ويؤدي الضغط المرتفع المستمر أيضًا إلى تقليل الغطاء السحابي وانخفاض سرعات الرياح، مما يؤدي إلى تفاقم تأثير التسخين في المنطقة المعنية. ووفقًا لدراسة نشرتها جامعة ويسكونسن ماديسون عام 2024، أصبحت القبة الحرارية أكثر تكرارًا بسبب تغير المناخ العالمي.
وتسلط أشلي وارد، خبيرة الحرارة والصحة، في معهد نيكولاس للطاقة والبيئة والاستدامة بجامعة ديوك، الضوء على التأثيرات الصحية الشديدة للقبة الحرارية. فوفقًا لدراسة نشرتها عام 2024، فإن تشكل القبب الحرارية بشكل مبكر في مناطق مختلفة من العالم يعد أمراً خطيراً بشكل خاص حيث لم يتأقلم الناس بعد مع درجات الحرارة المرتفعة. وهذا يزيد من خطر الإصابة بالأمراض المرتبطة بالحرارة، وخاصة بين الفئات السكانية المعرضة للخطر مثل كبار السن، وأولئك الذين يعانون من ظروف صحية قائمة مسبقًا، والعاملين في الهواء الطلق.
وعلاوة على ذلك، تشير الدراسات التي أجراها آل داتشر، عالم المناخ في جامعة نبراسكا الأميركية، إلى التأثيرات البيئية الأوسع للقبب الحرارية، موضحا أن ارتفاع درجات الحرارة ليلاً يعطل عمليات الراحة والتنفس الطبيعية للمحاصيل، مما يؤدي إلى انخفاض الغلة الزراعية.
وتركز الأبحاث التي أجريت في جامعة ولاية أوريغون على تأثير القبب الحرارية على النظم البيئية للغابات. ووفقًا لدراسة نُشرت عام 2024، تتسبب موجات الحرارة الشديدة في احتراق أوراق الشجر وتساقطها في أنواع مختلفة من الأشجار. وتشير هذه النتائج إلى أنه يمكن توقع ضغوط بيئية مماثلة في مناطق مثل إيران، حيث يمكن أن تؤدي الحرارة المطولة إلى أضرار طويلة الأمد لكل من النظم البيئية والطبيعية.
تزامن القبة الحرارية مع تلوث الهواء
أدت موجة الحر الشديدة إلى تفاقم مستويات تلوث الهواء، وخاصة في طهران. غالبًا ما تحبس جغرافية المدينة، المحاطة بالجبال، الملوثات، مما يخلف “حوضا للتلوث”. وخلال موجة الحر الأخيرة، أدى الجمع بين درجات الحرارة المرتفعة والهواء الراكد إلى مستويات خطيرة من الضباب الدخاني والجسيمات الدقيقة المعلقة التي يبلغ قطرها 2.5 ميكرومتر، مما أثر بشكل كبير على جودة الهواء وتسبب في مراجعة 225 مواطنا المراكز الصحية في مدينة طهران وحدها بسبب ضربات الشمس والتلوث.
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن التزامن بين الحرارة المرتفعة وتلوث الهواء يزيد من المخاطر الصحية، وخاصة بالنسبة للفئات السكانية الضعيفة. وقد أظهرت دراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي، نشرها في أغسطس/آب 2022، أن زيادة كل من تلوث الهواء والحرارة الشديدة تضاعفان من المخاطر الصحية، لكن الحالة تصبح أسوأ إذا كان هناك تزامن بين هاتين الظاهرتين.
ففي كاليفورنيا، أظهر تحليل المنتدى الاقتصادي بأنه بين عامي 2014 و2020، كان خطر الوفاة خلال الأيام شديدة الحرارة والملوثة أكبر بـ3 أضعاف من تأثير الحرارة المرتفعة أو تلوث الهواء المرتفع بشكل منفرد.
تحليل أنماط وأسباب ارتفاع الحرارة بإيران
على مدى العقود القليلة الماضية، شهدت إيران زيادات كبيرة في درجات الحرارة تتوافق مع اتجاهات الاحتباس الحراري الإقليمية والعالمية. وبحسب دراسات أجراها كل من داراند عام 2015 وفلاح غالهاري عام 2019، حيث قاما بتحليل درجات الحرارة القصوى باستخدام بيانات مناخية واسعة النطاق، وتبين أن درجة الحرارة المتوسطة في إيران ارتفعت بنحو 1.4 درجة مئوية على مدى القرن الماضي بسبب تغير المناخ الناجم عن أنشطة الإنسان.
بالإضافة إلى ذلك، يسلط البحث -الذي أجراه رحمان زندي وفاطمة شهريار في مجلة التخطيط الجغرافي- الضوء على تأثير تغيرات استخدام الأراضي على درجات حرارة السطح. ففي مناطق مثل يزد، أدى تحويل المساحات الخضراء والأراضي الزراعية إلى مناطق حضرية -والذي نتج عنه تقليل التأثيرات المبردة للنباتات- إلى ارتفاع درجات الحرارة المحلية. ويساهم انخفاض الغطاء النباتي بشكل كبير في ارتفاع درجات حرارة السطح بسبب فقدان تأثيرات التبريد الناتجة عن التبخر.
وأدى هذا التوسع الحضري إلى تكثيف تأثير “جزر الحرارة الحضرية” في العديد من المدن الإيرانية. حيث تمتص المناطق الحضرية، ببنيتها التحتية الكثيفة ومساحاتها الخضراء المحدودة، المزيد من الحرارة وتحتفظ بها، مما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة في مراكز المدن مقارنة بالمناطق الريفية المحيطة. وتدعم هذه الملاحظة دراسة أجراها فيروزجاي وآخرون، نُشرت في مجلة المؤشرات البيئية، ورصدت شدة جزيرة الحرارة من خلال تحليل الصور متعددة الأزمنة في مدينة بابل الإيرانية.
ويعد تغير المناخ العالمي المحرك الأساسي لارتفاع درجات الحرارة الملحوظ في إيران. ويجعل الموقع الجغرافي البلاد عرضة بشكل خاص لتأثيرات الانحباس الحراري العالمي، والذي يتفاقم بسبب مناخها الجاف وشبه الجاف. وتتفاقم آثار هذه التغييرات المناخية بسبب التغيرات في استخدام الأراضي، مثل إزالة الغابات والممارسات الزراعية والتوسع الحضري، والتي تؤثر بشكل كبير على المناخ المحلي من خلال زيادة درجات حرارة سطح الأرض.
الاتجاهات المستقبلية
بالنظر إلى المستقبل، تتوقع نماذج المناخ -التي نشرت في دراسة للمجلس الأطلسي- أن تشهد إيران ارتفاعًا في درجات الحرارة يبلغ في المتوسط نحو 2.6 درجة مئوية بحلول منتصف القرن، مع احتمالات ارتفاعها إلى 4 درجات مئوية بحلول 2100.
وتشير دراسة الباحث الإيراني منصوري دانشفر “نظرة عامة على التغير المناخي في إيران: الحقائق والإحصائيات” إلى توقع انخفاض معدل هطول الأمطار بنسبة 35% في العقود القادمة مما سيؤدي إلى تفاقم ظروف الجفاف.
وسوف يؤدي هذا الانخفاض، إلى جانب ارتفاع معدلات التبخر بسبب ارتفاع درجات الحرارة، إلى تقليص إمدادات المياه السطحية والجوفية، مما يتسبب في تكثيف مشاكل ندرة المياه. وسوف تؤدي درجات الحرارة المرتفعة وانخفاض توافر المياه إلى جعل الزراعة أكثر تحديًا. ومن المتوقع أن تنخفض غلة المحاصيل، وتزداد الحاجة إلى الري، مما يزيد من الضغوط على موارد المياه ويؤدي إلى انعدام الأمن الغذائي في إيران.
ويمكن أن تؤدي درجات الحرارة المرتفعة وانخفاض هطول الأمطار إلى تسريع التصحر، وخاصة في المناطق القاحلة وشبه القاحلة في إيران. حيث يمكن أن تؤدي هذه العملية إلى فقدان الأراضي الصالحة للزراعة والتنوع البيولوجي. وتشير توقعات دراسة دانشفر إلى انخفاض كبير في الغطاء الثلجي، وهو أمر بالغ الأهمية للحفاظ على إمدادات المياه في العديد من المناطق. ويمكن لفقدان الغطاء الثلجي أن يقلل من توفر المياه خلال مواسم الجفاف، مما يزيد من الضغط على موارد المياه.
وعلاوة على ذلك، من المتوقع أن ترتفع احتمالات الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والانهيارات الأرضية. ومع زيادة وتيرة الأحداث الجوية المتطرفة، بما في ذلك أحداث هطول الأمطار الغزيرة المتخللة بالجفاف المطول، يزداد خطر الفيضانات الكارثية وتآكل التربة بشكل كبير. ويشار إلى هذا الخطر المحدق في مشروع ستانفورد إيران 2040 الذي يشجع على إجراء أبحاث استشرافية حول المستقبل في ظل سيناريوهات مناخية مختلفة.
وستواجه المناطق الحضرية تحديات مركبة بسبب زيادة الضغوط الحرارية ونقص المياه. حيث ترتبط درجات الحرارة المرتفعة بزيادة المخاطر الصحية. ومن المتوقع أن ترتفع معدلات الأمراض والوفيات المرتبطة بالحرارة. بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي درجات الحرارة المرتفعة وأنماط هطول الأمطار المتغيرة إلى توسيع نطاق وفترة نشاط ناقلات الأمراض مثل البعوض، مما قد يؤدي إلى انتشار أمراض مثل الملاريا وداء الليشمانيات.