يستخدم الجراحون معالم تشريحية سطحية على الكبد للمساعدة في إجراء العمليات، ومن المفارقات أن المصطلحات التشريحية المتداولة بينهم، لها جذور علمية في الحضارة البابلية، التي أعطت “الكبد” أهمية كبيرة واستخدمت علاماتها التشريحية في قراءة المستقبل، وهي الطريقة التي أعادت باحثة بجامعة ليستر البريطانية، استخدامها أكثر من مرة قبل الانتخابات الأميركية، لتخرج هذه المرة بنتيجة أن المرشح الجمهوري دونالد ترامب لن يفوز.

والجذور العلمية لهذه الممارسة، التي أعادت سيلينا ويسنوم الباحثة في تراث الشرق الأوسط بجامعة ليستر استخدامها، تم تفصيلها في دراسة نشرها باحثون من “معهد الطب المتكامل” البرازيلي بدورية “إتش بي بي”، المعنية بأبحاث “الكبد والبنكرياس والقنوات الصفراوية “.

أول طلاب للتشريح في التاريخ

ووصف الباحثون في دراستهم، الكهنة المنتمين لأقدم فترة في تاريخ بابل، أي قبل الميلاد بنحو 3 آلاف عام، بأنهم “أول طلاب للتشريح في التاريخ”، بل إنه يمكن القول إن “دراسة التشريح بدأت في تلك الفترة، بالتحليل التفصيلي لكبد الغنم، والتي كان لعلاماتها التشريحية دور مهم في قراءة المستقبل، وفقا لمعتقداتهم”.

ويقول الباحثون إن “الكهنة كانوا يعتقدون أنه على الرغم من تطابق التكوين الأساسي للأعضاء من النوع نفسه، فإنه لا تتشابه كبدان مطلقا، لذلك كان التنبؤ بالمستقبل يعتمد على النتائج المحددة لسطح الكبد، لأنها وفقا لمعتقداتهم، تعتبر موقع الروح والعضو الحيوي والمكان المركزي لجميع أشكال النشاط العقلي والعاطفي، حيث لم يبدأ القلب في أداء هذه الوظيفة في هذه الحضارات إلا بعد ذلك بكثير”.

ولأهمية هذه الممارسة، طور هؤلاء الكهنة نماذج طينية من أكباد الأغنام، استُخدمت كنماذج تعليمية، أشبه بتلك التي يستخدمها طلاب الطب في مادة التشريح، وذلك لتدريب الطامحين إلى العمل بالكهنوت.

وذكرت الدراسة أنه خلال دراسة الكتابة البابلية، تمت ترجمة العديد من المصطلحات على هذه النماذج، وتم دمج العديد منها لاحقا في المصطلحات التشريحية الحالية.

وقالت الدراسة، إنه “على سبيل المثال، تم تحديد الفصين الأيمن والأيسر للكبد على أنهما (الجناحان الأيمن والأيسر للكبد)، وكان يطلق على تجويف المرارة اسم (حافة نهر الكبد) والفجوة السرية اسم (نهر الكبد) أو (بوابة القصر)، وتم تحديد الفص المذنب على أنه (منتصف الكبد)، وأطلق على المرارة اسم (الجزء المر)، وعرفت القناة الصفراوية باسم (المخرج) والقناة الصفراوية المشتركة باسم (التقاطع)، وسمي باب الكبد باسم  (البوابة) “.

Results of the liver inspection for the US election with Selena Wisnom

ترفيه تحول لممارسة بحثية

وتدرك الباحثة بجامعة “ليستر”، سيلينا ويسنوم، كل هذه التفاصيل التي ذكرها الباحثون البرازيليون في دراستهم بحكم تخصصها في تراث الشرق الأوسط، لذلك فقد اعتادت خلال السنوات الأخيرة أن تقوم بتقديم عرض تعليمي شيق عن هذا التراث القديم في “قراءة الكبد”، قبل انتخابات الرئاسة الأميركية.

وتقول ويسنوم في تقرير نشرته بموقع “ذا كونفرسيشن”: “بدأت هذه الممارسة، كعرض ممتع ليوم مفتوح في الجامعة، ثم أصبحت جزءا جادا من بحثي، ليس لأنني أؤمن به بصدق، ولكن لأنه يقدم لنا بعضا من أقدم الأدلة في التاريخ حول كيفية تفكير البشر واتخاذهم القرارات”.

وتضيف أن “قراءة الأكباد تبرز نقطة جادة حول كيفية مواجهة البشر لعدم اليقين عبر التاريخ، فما زالوا يكافحون حتى اليوم، وطوروا تقنيات متنوعة، مثل علم التنجيم، وبطاقات التاروت، كرد فعل لمعاناة عدم المعرفة أو عناء اتخاذ قرار صعب”.

ونظرا للتوتر الكبير المحيط بالانتخابات الأميركية، ترى ويسنوم أنها “لحظة فريدة ربما يمكننا من خلالها تقدير أننا، في هذا الجانب، لا نختلف كثيرا عن أولئك الذين عاشوا قبل آلاف السنين، حتى لو كانت طرقنا في التنبؤ بالمستقبل مختلفة”.

تجربة من مطبخ الكُلّية

وتمهد ويسنوم لاحتمالية خطأ توقعها بخسارة ترامب، فتقول “نحن جميعا نرغب في معرفة المستقبل وقد اخترعنا طرقا مبتكرة لذلك، مثل استطلاعات الرأي ونماذج البيانات وحتى استخدام “بول الأخطبوط  لتوقع نتائج مباريات كأس العالم 2010″، ولكن أساليبنا ليست أفضل من النظر في كبد خروف، فأحيانا تصيب وأحيانا تخطئ”.

وتوقعت طريقة البابليين التي استخدمتها ويسنوم في 2016 ، فوز دونالد ترامب، قبل أن يحصل على ترشيح الحزب الجمهوري، وفي عام 2020 توقعت أيضا أنه لن يعاد انتخابه، لكن هذه المرة ونظرا لوجود عدد كبير من النذر السيئة في الكبد التي فحصتها، خلصت إلى أن الجواب قد يكون هذه المرة هو “لا لترامب”.

وشرحت في أكثر من فيديو طريقتها لاستخلاص الإجابة بـ”لا لترامب”، حيث طرحت سؤالا على بعض أكباد الأغنام، ثم قامت بتحليلها بنفس الطريقة التي كان البابليون القدماء يستخدمونها، بحثًا عن علامات إيجابية وسلبية، ثم بحثت عن النتائج في سلسلة من الألواح الطينية التي تشرح معنى كل فأل على حدة، فإذا كان هناك المزيد من العلامات الإيجابية والعلامات السلبية فإن الإجابة على السؤال هي نعم، بينما إذا كان الأمر على العكس فإن الإجابة هي لا.

التأصيل العلمي لخدعة الكهنة

هذه الممارسة القائمة على الكبد لها بعد إيجابي تحمس له استشاري كبد مصري، لكنه في نفس الوقت قدم تأصيلا علميا لما وصفه بـ”خدعة ” توظيف الكبد لتمرير ما يريده الكهنة.

وبعد أن اطلع على المقالة التي كتبتها الباحثة  في تراث الشرق الأوسط بجامعة ليستر، سيلينا ويسنوم، يقول د.محمد علي عز العرب، استشاري الكبد والجهاز الهضمي، ومؤسس وحدة أورام الكبد بالمعهد القومي للكبد للجزيرة نت: “التقدير التاريخي للكبد كعضو مهم يقوم بـ(500 وظيفة) على مدار اليوم، هو أمر يسعدني كاستشاري متخصص في الكبد، لكن ما أرفضه ولأسباب علمية أيضا، هو محاولة استعادة ممارسات الدجل القديمة، وإكسابها ثوبا علميا”.

ويضيف “لا أعترض على الحديث عن تلك الممارسة في إطار معرفة تراث الماضي، لكن تحويلها لتجربة علمية واستخدامها للتعليق على أحداث الحاضر، هو ما أرفضه رفضا تاما، لاسيما أن خدعة كهنة الماضي يمكن أن يفهمها كل منا لديه أبجديات علم الطب”.

ولا يختلف التركيب التشريحي والهيستولوجى للكبد من فرد لآخر، كما لا يختلف بين الأغنام، ولكن كما في البشر، يختلف سطح الكبد بين الأغنام، باختلاف التغذية و العمر، والأمراض كالتلف الناتج عن حالات مرضية مثل التليف الكبدي أو التهاب الكبد، وبالتالي، فإنه يمكن للكهنة الذين يريدون توجيه الملك إلى قرار ما، اختيار الأغنام التي تبدو بصحة جيدة، لضمان أن سطح كبدها سيحمل علامات تحقق لهم ما يريدون.

ويضحك عز العرب ساخرا “ربما تكون الباحثة، وهي تستعيد ممارسات كهنة بابل، قد اختارت أغناما مريضة، إذ في تقديري أن ترامب يبدو الأوفر حظا”.

دليل آخر من الحضارة المصرية

ويبدو أن ممارسات الكهنة واحدة في كل الحضارات، فالحضارة المصرية التي كانت لها إنجازات في الطب والهندسة والفلك، كان ملوكها أسرى لما يفرضه الكهنة، كما يقول بسام الشماع، الكاتب في علم المصريات للجزيرة نت.

وكما تحكّم كهنة بابل من خلال ممارسات قراءة المستقبل عن طريق أكباد الأغنام، تدخّل كهنة مصر القديمة في كل شيء، حتى في اختلاق المعبودات الأسطورية التي عبدها المصري القديم، بحسب الشماع.

ويضيف “ما يدعو للتعجب مثلا أن المصري القديم صاحب الإنجازات، يكون معبوده الأسطوري كبشا، كما في حالة (آمون رع)، فهذا المعبود من اختلاق الكهنة، الذين كان لهم نفوذ كبير، لذلك كان يحرص الملوك على استرضائهم دائما، عدا أخناتون، الذي قام بتغيير المعبود من آمون رع إلى آتون، ولم يسلم من شرهم ومكرهم، وكانوا أحد أسباب نهاية حكمه”.

ويختم تعليقه ضاحكا مثل عز العرب “يبدو أن كاهنة جامعة ليستر التي توقعت فوز ترامب في مرات سابقة، لم تحصل على ما تنتظره، فكانت النتيجة هذه المرة في غير صالحه”.

شاركها.
Exit mobile version