حذرت منظمة الصحة العالمية مؤخرًا من أن 175 ألف شخص يموتون سنويًا في أوروبا بسبب درجات الحرارة، وتوقعت أن يرتفع هذا الرقم في السنوات القادمة مع استمرار ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض.

حدثت كل هذه الخسائر البشرية لأن درجة الحرارة وصلت أو تجاوزت بقليل الـ40 درجة مئوية فقط، وهو مشهد اعتاد الكثيرون على تجاوزه في فصل الصيف في مناطق أخرى من العالم.

فما الذي يزيد من احتمالية إصابة أي شخص يعيش في أوروبا بضربة شمس أكثر من شخص آخر يسكن في دولة عربية أو آسيوية مثلًا رغم أن كليهما يعيشان في مستويات متقاربة من درجة الحرارة؟

لماذا تقتل الشمس الأوروبيين؟

مع تعرض أوروبا لموجات حر قياسية تسببت في السنوات الأخيرة في حالات وفيات أكثر من أي مكان آخر حول العالم حتى مقارنةً بالدول العربية التي تسجل أعلى درجات حرارة على وجه الأرض، انتشرت في السنوات الأخيرة جملة مفادها أن “الحر في دول أوروبا يختلف عن الحر في الدول العربية”.

التفسير الوحيد الذي يتردد في هذه الحالة بين وسائل التواصل الاجتماعي العربية والأوروبية أن الشمس عمودية على أوروبا أو أنها أقرب إلى الأرض هناك مقارنة بدول أخرى، وبالتالي تتركز حرارتها على مساحة أصغر، ما يجعلها أشد وطأة. على عكس ما إذا كانت زاوية الشمس مائلة، فتتوزع أشعتها على مساحة أكبر، ما يجعل تأثيرها أخف.

لكن بسبب الموقع الجغرافي، لا تصبح الشمس عمودية إطلاقًا في أي وقت في السنة على الدول الأوروبية، وهي إما تتعامد على مدار السرطان أو الجدي، وكلاهما لا يصل إلى أوروبا أصلا، وهذا يجعل التفسير الذي يتردد على الألسنة غير صحيح.

بخلاف هذه الرواية المغلوطة، هناك الكثير من الأسباب التي تفسر تأثير موجات الحر الذي يصل حد الموت في أوروبا، يذكر منها الدكتور عبد الله المسند أستاذ المناخ ونائب رئيس جمعية الطقس والمناخ السعودية، في تصريحات لـ”الجزيرة نت”، كثرة الوفيات تحصل بين العمال تحت أشعة الشمس المباشرة طوال النهار والمشردين الذين يسكنون في الشوارع دون رعاية أو حماية أو مأوى يحميهم، والمرضى وكبار السن، خاصة أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا، مضيفًا أن “أوروبا تعاني من شبح الشيخوخة، وتشهد ارتفاع معدل الأعمار، ويسكن بعض كبار السن بمفردهم دون رعاية صحية، وبالتالي تشكل الحرارة الشديدة مشكلة خاصة لهم”.

وعلى عكس طبيعة أجسام المواطنين العرب المتأقلمة مع الأجواء الحارة، لا تتكيف أجسام الأوروبيين مع درجات الحرارة العالية، فقد اعتادوا على طقس القارة البارد عامة والمعتدل صيفًا، واعتادت أغلب العواصم الأوروبية على أن تشهد درجات حرارة متوسطة خلال أيام الصيف باستثناء دول جنوب القارة العجوز.

ومع تسارع أزمة تغير المناخ، يعيش الأوروبيون اليوم في واحدة من أسرع القارات ارتفاعًا في درجات الحرارة، وتظهر أحدث متوسطات الـ5 سنوات أن درجات الحرارة في أوروبا ترتفع بمقدار 2.3 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، مقارنة بـ1.3 درجة مئوية أعلى على مستوى العالم، أي بما يقرب من ضعف المتوسط العالمي، ولهذا يواجه كثيرون منهم مخاطر صحية متزايدة ناجمة عن هذا التغير الدراماتيكي.

أحد العوامل الأخرى يتعلق بطول فترة النهار في أوروبا مقارنة بالمنطقة العربية، فلا يكاد النهار ينتهي هناك حتى يعود بعد ساعات قليلة بشمسه الحارقة خلال فصل الصيف، وفي بعض المناطق الواقعة في شمال أوروبا لا تغيب الشمس مطلقا في الصيف، وتعني ساعات النهار الطويلة أن الحرارة العظمى تصل ذروتها في وقت مبكر من اليوم، وتستمر لساعات أطول من نهار الدول العربية، وهذا يزيد من مدة تعرضهم للشمس، واحتمالية إصابتهم بضربات الشمس التي يمكن أن تتسبب في الوفاة.

يتعلق الأمر كذلك بتغيرات مناخية مفاجئة تتعارض مع أسلوب حياة الأوروبيين ونمط معمارهم،  فالكثير من المنازل الأوروبية صُممت وبُنيت الغرف داخلها صغيرة في مساحتها، وغير مجهزة لمواجهة مثل هذه الحرارة المرتفعة، وتخلو من وجود مكيفات أو حتى مراوح تقيهم شدة الحر، خاصة منازل كبار السن والمرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة، وبالتالي يفاقم الإعياء والاحترار حالاتهم المرضية، هذا بالمقارنة بظروف معيشية وبنية تحتية تخفف من وطأة التطرف المناخي في الدول العربية.

 

الرطوبة تقتل أيضًا

لفهم ما يجعل حرارة الشمس أكثر تأثيرًا على سكان أوروبا بشكل أعمق، لا بد من النظر إلى مصطلح “درجة الحرارة المحسوسة” الذي يتردد كثيرًا خلال فصل الصيف، ويُستخدم لوصف درجة الحرارة الحقيقية التي يشعر بها الإنسان عندما يخرج في الهواء، ويأخذ في الاعتبار عوامل عدة مثل سرعة الرياح ونسبة الرطوبة الجوية ودرجة حرارة الهواء.

وهنا يجب أن نعرف أن درجة الحرارة الفعلية المعلنة في نشرات الطقس، وهي درجة حرارة الهواء التي تُقاس بأدوات مثل الميزان الحراري، وبمعايير مطبقة بمعرفة المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، تختلف عن مؤشر الحرارة الحقيقي  الذي يأخذ بعين الاعتبار عند حسابها درجة حرارة الجو مع درجة الرطوبة، والناتج هو ما يشعر به الإنسان خلال هذه الموجة الحارة.

على سبيل المثال، إذا افترضنا أن شخصًا ما يعمل في العاصمة العراقية بغداد في درجة حرارة 45، لكن جسمه يشعر بدرجة حرارة 42 (درجة الحرارة المحسوسة)، ثم سافر هذا الشخص إلى دولة أوروبية وصلت فيها درجة الحرارة إلى 37 درجة مئوية، فقد يشعر كأنها 45 درجة مئوية، ويعتمد الشعور بالحرارة في هذه الحالة على عدة عوامل أهمها نسبة الرطوبة، وليس فقط على درجة الحرارة المسجلة.

ويفسر الدكتور عبدالله المسند ارتفاع نسبة الرطوبة في أوروبا طوال أيام السنة بانتشار الغابات والأنهار والبحيرات التي تغطي مساحات شاسعة من اليابسة، فضلًا عن اقتراب القارة الأوروبية من السواحل، وبعضها دول جزرية كبريطانيا، وتطل دول أخرى على العديد من البحار من كل جهة.

في مثل هذه المناطق الساحلية، يضعف أو يتوقف تبريد الجسم ذاتيًا عبر عملية التعرق، حيث يقل إفراز عرق الجسم، ويتبخر من الجلد بمعدل أبطأ بكثير في الأيام التي ترتفع فيها الرطوبة، وكلما زادت نسبة الرطوبة في الجو بالتزامن مع ارتفاع درجة الحرارة زاد الإحساس بالحر، وارتفعت درجة حرارة الجسم لدرجة قد تؤدي إلى الوفاة.

بمقارنة ذلك بالأجواء الطبيعية والجافة كما هو الحال في المناطق الحارة الداخلية في الجزيرة العربية، نجد أن آلية التعرق تعمل بكفاءة وفاعلية في أيام الصيف الحارة على تنظيم درجة حرارة الجسم عبر التبريد الذاتي على الرغم من ارتفاع درجة الحرارة.

عوامل أخرى

وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يعد الإجهاد الحراري السبب الرئيسي للوفيات المرتبطة بالحرارة في أوروبا، حيث تؤدي درجات الحرارة القصوى التي تشهدها في السنوات الأخيرة إلى تفاقم الحالات المزمنة، بما فيها أمراض القلب والجهاز التنفسي والأوعية الدموية والدماغية، وكذلك أمراض الصحة العقلية والحالات المرتبطة بمرض السكري.

عند التعرض لدرجة حرارة عالية، يبدأ الجسم في الدخول في حالة خطر، وفي حالة عدم تدارك الوضع، تبدأ البروتينات في التفكك والتحلل وفقدان بنيتها الأصلية، وتؤثر على عمل الخلايا، وهذا يجعل الأعضاء تفشل في أداء وظائفها الطبيعية والبيولوجية المقصودة تحت تأثير الحمى والحرارة العالية، وقد ينتهي بالموت.

هنا يأتي دور العامل الأول، وهو المناعة الجينية، التي تحد من الإصابة بضربات الشمس من خلال بروتينات الصدمات الحرارية أو ما يُطلق عليها “بروتينات النجدة” التي تحمي الشخص عند الإصابة بأعراض ضربة الشمس، من خلال تعويض البروتينات التي تضررت، وإعادة تكوين بروتينات غيرها عند ارتفاع درجة الحرارة، بحيث تعود الخلايا إلى وظائفها الطبيعية.

أما العامل الثاني فهو صبغة الميلانين التي تحدد لون البشرة، والتي يفرزها الجسم لوضع حاجز يحمي الخلايا من الضرر، وهي العملية ذاتها التي تحدث عند “التسمير” والتي يقوم خلالها الجسم بالدفاع عن نفسه بإنتاج صبغة الميلانين التي تعطي الجلد لونًا أغمق، لذلك يكون للأشخاص الذين يتعرضون لأشعة الشمس أو غيرها بشرة أغمق.

وكلما كان لون البشرة أغمق، زادت مقاومة الجسم للأشعة فوق البنفسجية، التي تسبب حروقًا ومشاكل كثيرة في البشرة، ولأن غالبية الأوروبيين يمتلكون بشرة فاتحة، يكون تأثير هذه الأشعة أقوى.

وتخلص إحدى الدراسات إلى أن إفراز بروتين الصدمة الحرارية يرتبط بإفراز الميلانين، وهذا ما نقصده عند الحديث عن المناعة الجينية، لأنه يُفرز غالبًا عندنا بشكل أسرع وأكثر كفاءة.

وعند مقارنة مستويات بروتين الصدمة الحرارية في الخلايا الصبغية الأفريقية والخلايا الصبغية البيضاء، وجد الباحثون أنه مرتفع عند أصحاب البشرة السمراء مقارنة بالبيض، ويمثل كوننا أكثر سُمرة من الأوروبيين وأكثر اعتيادًا على حرارة الشمس أحد الأسباب التي تجعلنا أكثر مقاومة للحرارة، وأقل خسائر بشرية في مواجهة موجات الحر.

شاركها.
Exit mobile version