يكفي أن تكتب على محرك البحث الخاص بالأبحاث العلمية “غوغل سكولار” مصطلح “تدوير ثاني أكسيد الكربون”، لتأتيك العشرات من قصص النجاح التي كان أبطالها باحثون نجحوا في ابتكار مجموعة من التقنيات والأساليب التي تهدف إلى تقليل انبعاثات الكربون، وإنشاء مسارات مستدامة لاستخدامه كمورد قيم، وبالتالي التخفيف من تأثيره على تغير المناخ.

وبينما بدت التقنيات التي توصل لها الباحثون واعدة، يواصل العلماء استكشاف حلول أكثر كفاءة وفعالية من حيث الكلفة والفائدة الاقتصادية والقابلية للتطوير بشكل صناعي، ويزعم باحثون صينيون أنهم وضعوا قدما على طريق الوصول إلى طريقة تتوفر فيها هذه الشروط.

وفي الدراسة التي نشرتها دورية “تشاينيز جورنال أوف كاتاليست”، وصف الباحثون من جامعة تشغيانغ الصينية طريقتهم لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى “ثنائي ميثيل إيثر”، وهي مادة هامة صناعيا يمكن وصفها بـ”المادة الخارقة”.

ووصل حجم سوق ثنائي ميثيل إيثر العالمي إلى 6.6 مليارات دولار أميركي في عام 2023، ويتوقع المؤتمر الدولي للتعدين والموارد وصول السوق إلى 14.2 مليار دولار أميركي بحلول عام 2032، مما يُظهر معدل نمو بنسبة 8.5٪ خلال الفترة من 2024 إلى 2032. ويرجع ذلك بشكل أساسي لتنوع استخداماتها، حيث تدخل في العديد من الصناعات ومنها:

  • أولا: يدخل في تصنيع منتجات “الأيروسول” مثل مثبتات الشعر ومزيلات العرق ودهانات الرش.
  • ثانيا: يستخدم كمبرد في أنظمة المضخات الحرارية ووحدات تكييف الهواء، لا سيما في البلدان التي تقيد فيها اللوائح البيئية استخدام المبردات التقليدية، بسبب قدرتها العالية على الاحتباس الحراري.
  • ثالثا: يستخدم كمذيب في الصناعات المختلفة، خاصة في عمليات الاستخلاص أو كمنظف بسبب خصائصه المذيبة.
  • رابعا: يمكن توظيفه كمادة خام في إنتاج المواد الكيميائية المختلفة، بما في ذلك الأوليفينات وكبريتات ثنائي الميثيل، والتي تستخدم في تصنيع البلاستيك والراتنغات والمنتجات الكيميائية الأخرى.
  • خامسا: يمكن مزجه مع غاز البترول المسال ( البوتاجاز) لتحسين خصائص الاحتراق وتقليل الانبعاثات.
  • سادسا: يمكن استخدامه كحامل هيدروجين في تطبيقات خلايا الوقود، وبالتالي يمكن أن يكون مفيدا للمركبات التي تعمل بالهيدروجين.

طريقتان شهيرتان للتصنيع

وبعيدا عن تدوير ثاني أكسيد الكربون، تُصنع هذه المادة الخارقة تقليديا عبر عمليتين رئيسيتين، هما:

  • أولا- تحويل الميثانول إلى “ثنائي ميثيل إيثر”:
    وتبدأ هذه الطريقة بإنتاج الغاز الاصطناعي (وهو خليط من أول أكسيد الكربون والهيدروجين) من الغاز الطبيعي أو الفحم أو الكتلة الحيوية أو المواد الخام الهيدروكربونية الأخرى، وبمجرد الحصول على الغاز الاصطناعي يُحول إلى ميثانول باستخدام محفزات (مواد تساعد في عملية التفاعل) مثل المحفزات القائمة على النحاس، ويخضع بعد ذلك الميثانول لمزيد من الجفاف التحفيزي (عملية كيميائية تتضمن إزالة جزيء الماء من مركب باستخدام مادة محفزة)، وذلك لإنتاج “ثنائي ميثيل إيثر”.
  • ثانيا- التجفيف المباشر للميثانول:
    تعتمد هذه الطريقة على إنتاج “ثنائي ميثيل إيثر” مباشرة من خلال التجفيف، وتتضمن هذه الطريقة استخدام محفزات حمضية مثل الزيوليت لإزالة جزيء الماء من الميثانول، مما يؤدي إلى تكوين المركب المطلوب.

وغالبا ما يعتمد الاختيار بين هذه الطرق على عوامل مثل المواد الأولية المتاحة والكلفة وكفاءة العملية والاعتبارات البيئية، وتعد الطريقة غير المباشرة عبر الغاز الاصطناعي أكثر شيوعا في الإنتاج الصناعي واسع النطاق، نظرا لاستخدامها مواد أولية مختلفة، في حين أن عملية تجفيف الميثانول المباشر أقل شيوعا.

طريقة ثالثة.. ميزة إضافية

وفي إطار السعي العالمي نحو تخفيف انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لتأثيراته السلبية على المناخ، وصفت دراسات سابقة عده تجارب لتحويله إلى مادة “ثنائي ميثيل إيثر” الخارقة، وبذلك يمكن “ضرب عصفورين بحجر واحد”، حيث يتم التخلص من انبعاثات الكربون الضارة بمناخ الأرض، ومن ناحية أخرى إنتاج مادة مفيدة للغاية في الصناعات المختلفة. ومن هذه التجارب:

  • الهدرجة المباشرة: فقد قام علماء بتجربة عمليات الهدرجة المباشرة التي تتضمن التفاعل التحفيزي لثاني أكسيد الكربون مع الهيدروجين لإنتاج “ثنائي ميثيل إيثر”، واستُخدمت العديد من المحفزات بما في ذلك المحفزات القائمة على النحاس وجسيمات النحاس النانوية.
  • التحفيز المتتالي: ويتضمن التحفيز المتتالي سلسلة من التفاعلات، حيث يُحوّل ثاني أكسيد الكربون أولا إلى ميثانول، ثم يخضع الميثانول للتكثيف لتكوين” ثنائي ميثيل إيثر”، واستُخدمت محفزات النحاس لتخليق الميثانول الأولي، تليها المحفزات الحمضية مثل “الزيوليت” لتجفيف الميثانول وتحويله إلى “ثنائي ميثيل إيثر”.
  • المحفزات ثنائية الوظيفة: تعتمد هذه الطريقة على المحفزات التي تجمع بين الوظائف الحمضية والمعدنية، واستكشاف جسيمات النحاس النانوية المدعومة بأكاسيد حمضية لتحقيق تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى ثنائي ميثيل إيثر.

وواجهت هذه التجارب عده تحديات منها:

  • تحديات في تحقيق انتقائية عالية للمادة المطلوبة عند زيادة معدلات تحويل ثاني أكسيد الكربون، مما أدى إلى انخفاض الإنتاجية وتكوين منتجات ثانوية غير مرغوب فيها مثل الهيدروكربونات.
  • حدوث تلبيد أو تكتل لجزيئات المحفز النانوية أثناء التفاعل، مما أدى إلى تقليل متانة المحفز وكفاءته.
لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى " ثنائي ميثيل إيثر"، مما يوفر آفاقا واعدة لإعادة تدوير الكربون بكفاءة".

ماذا فعل الصينيون؟

وفي سعيهم لمواجهة هذه التحديات، أعلن الباحثون الصينيون بقيادة البروفيسور فنغ شو شياو والبروفيسور ليانغ وانغ من جامعة تشغيانغ، عن طريقة  أكثر كفاءة وفعالية من حيث التكلفة والفائدة الاقتصادية والقابلية للتطوير بشكل صناعي.

وقدم الباحثون في بيان صحفي أصدرته الأكاديمية الصينية للعلوم تبسيطا لطريقتهم الجديدة، واعترفوا فيه بالبناء على ما سبقهم من جهد، وفيما يلي أبرز ما أنجزوه:

  • تحديد قيود المحفز: فقد درسوا المحفزات الأولية التي تم تطويرها للتحويل المباشر من ثاني أكسيد الكربون إلى “ثنائي ميثيل إيثر”، وحددوا التحديات التي واجهت الباحثين، بما فيها انخفاض إنتاجية المادة المطلوبة وزيادة إنتاج المنتجات الثانوية غير المرغوب فيها.
  • تطوير المحفز المعزز: فعالجوا التحديات من خلال إنشاء محفز محسن قائم على جسيمات النحاس النانوية، وحمّلوا جسيمات النحاس النانوية على دعامات السيليكا الكارهة للماء والمعدلة بالغاليوم (معدن فضي ناعم يستخدم غالبًا في تطبيقات مختلفة).
  • الحموضة والجفاف: فالسيليكا المعدلة بالغاليوم توفر حموضة معتدلة، مما يسهل تجفيف الميثانول إلى ” ثنائي ميثيل إيثر”، مع منع الجفاف المفرط الذي يؤدي إلى تكوين الهيدروكربونات.
  • منع تعطيل المحفز: فالسطح الكاره للماء المحفز بشكل فعال، يمنع حدوث مشكلة تلبيد جسيمات النحاس النانوية، وهي مشكلة شائعة تنشأ عن الماء والميثانول، وبالتالي الحفاظ على متانة المحفز وفعاليته.
  • ظروف التفاعل المحسنة: ففي ظل ظروف تفاعل محددة  (تدفق 6 لترات من المواد المستخدمة في التفاعل باستخدام المحفز خلال ساعة في درجة حرارة 240 درجة مئوية وضغط 3 ميغاباسكالات)، حقق المحفز معدل تحويل ثاني أكسيد الكربون بنسبة 9.7% مع انتقائية عالية بنسبة 59.3% لمادة “ثنائي ميثيل إيثر” المطلوبة، ومع انخفاض نسبة المواد الثانوية الناتجة غير المرغوب فيها.
  • المتانة وطول العمر: فأثناء الاختبار المستمر لمدة 100 ساعة، أظهر المحفز أداء ثابتا ومستداما دون أي علامات لتراجع الأداء، متجاوزا أداء محفزات النحاس التقليدية.

ويقول الباحثون في البيان الصحفي: إن “هذه الخطوات تمثل نهجا مبتكرا لتطوير محفز فعال ودائم لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى ثنائي ميثيل إيثر، مما يوفر آفاقا واعدة لإعادة تدوير الكربون بكفاءة”.

جهد معملي ينتظره اختبار التوسع

تحتاج هذه الآفاق الواعدة لإعادة التدوير في تقييم أستاذ الهندسة الكيميائية بجامعة الوادي الجديد المصرية الدكتور محمود عبد الحفيظ، إلى جهد إضافي لإثبات قابلية الفكرة للتوسع والتطبيق في العالم الحقيقي.

ويقول عبد الحفيظ في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”: “التجارب المعملية كما تبدو في الدراسة مشجعة للغاية، ولكن التحدي المهم هو مدى إمكانية إنتاج المحفز الجديد على نطاق صناعي للاستخدام بشكل واسع في تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى ثنائي ميثيل إيثر”.

ويوضح أن التوسع في الفكرة يحتاج أيضا إلى مزيد من التحسين لتقليل المنتجات الثانوية مثل ثاني أكسيد الكربون والهيدروكربونات، فرغم ما تحقق من نسبة انتقائية (59.3%) لمادة “ثنائي ميثيل إيثر” المطلوبة، فإن المنتجات الثانوية لا تزال تمثل 40%، ويفضل خفض هذه النسبة.

ويضيف أنه “يجب أيضا حسم مسألة الأمان، وهذا يتطلب الإجابة على سؤال: هل هناك أي مخاوف تتعلق بالسلامة أثناء الإنتاج الموسع لثنائي ميثيل إيثر من ثاني أكسيد الكربون”.

شاركها.
Exit mobile version