يشهد كوكب الأرض ارتفاعا ملحوظا في درجة الحرارة مع مرور كل عام، فمنذ بداية تسجيل درجات الحرارة من قبل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي عام 1880، شهد الكوكب ارتفاعا في متوسّط درجة الحرارة وصل إلى درجتين مئويتين خلال تلك المدة الزمنية، كما أن عام 2016 كان هو الأشد حرارة وفقا للبيانات المسجلة.

ويُعزى هذا الارتفاع إلى النشاط البشري غير المقيّد مع تسارع عجلة الثورة الصناعية التي لم تجد شروطا لضبط سرعتها، فجاء تأسيس المصانع والمنشآت ومعامل الإنتاج الضخمة التي تعتمد على حرق الوقود الأحفوري بكميات هائلة لتزويد الآلات بالطاقة اللازمة لتشغيلها، والذي ينتج عنه انبعاثات ضارة ومخلفات كيميائية ضارة بالبيئة مثل غازات ثاني أكسيد الكربون وأكسيدات النيتروجين وأكسيد الكبريت.

ولا يقف ضرر هذه الغازات عند كونها سامة فقط، بل إنها تُعد غازات دفيئة تساهم بشكل مباشر في حدوث احتباس الحرارة ضمن الغلاف الجوي للأرض، وبالتالي ارتفاع درجة حرارة الكوكب. وقد لا تتضح مساوئ ذلك الازدياد في الوقت الراهن، لكن على المدى البعيد ستكون العواقب وخيمة ويصعب تفاديها، وأهمها ذوبان الجليد في قطبي الكوكب مما سيدفع إلى وقوع كوارث حقيقية ستغير من شكل الكوكب وحياة الإنسان والكائنات الحية عليه.

القطب الجنوبي.. مخازن الجليد

وعلى مدار ملايين السنوات تساقطت الثلوج وتراكمت على سطح القارة القطبية الجنوبية وتشكّلت طبقة جليدية أشبه بالغطاء الجليدي يبلغ متوسّط سماكته كيلومترين اثنين بمساحة 13.7 كيلومترا مربعا. وتربط هذه الطبقة الجليدية الشاسعة بين جزأي القارة التي تتألف منها جيولوجيا. كما تغطي الطبقة نحو 8% من إجمالي اليابسة على الأرض، وتبلغ أعلى قمّة فيها 4.9 كيلومترات في المرتفع الجبلي المعروف “فينسون ماسيف”، وهو أحد القمم السبع في العالم.

وتضم الطبقة الجليدية في جوفها نحو 25 مليون كيلومتر مكعب من الجليد، وإذا تعرّضت تلك الكتلة الجليدية الضخمة للذوبان تحت أيّ ظرف أو طارئ، فإنّ متوسّط مستوى سطح البحر سيرتفع بمقدار 61 مترا، وهذا يعني أنّ جميع الأبنية التي تتألف من 18 طابقا سيلتهمها الماء وتطمر كلّ ما هو أقل منها ارتفاعا. وقياسا على ذلك فإنّ تغيرات جوهرية ستطرأ على كوكب الأرض والكائنات الحية، لا سيما تلك المناطق الساحلية التي يقطنها 40% من سكان الكوكب، أي نحو 3 مليارات نسمة.

نزوح بشري ضخم واختفاء مدن

يشير تقرير التقييم السادس الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ (IPCC) إلى أنّ ارتفاعا قد حدث في متوسط منسوب المياه بنحو 0.2 متر منذ عام 1990. وقياسا على ذلك، يقدّر العلماء ارتفاعا آخر سيصل إلى متر واحد مع حلول عام 2100، وربّما يصل إلى 5 أمتار مع حلول عام 2150، وهو أمر لا يمكن استبعاده نظرا للتدهور السريع في تركيبة الغلاف الجوي للأرض.

ووفقا لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا، فإنّ القارة القطبية الجنوبية تتعرض للذوبان بمعدل متوسّط قدره 147 طنا متريا من الجليد سنويا، وهو ما يفوق تخمينات العلماء سابقا بمراحل.

وبطبيعة الحال فإنّ الارتفاع في منسوب المياه سيدفع الملايين من سكان المناطق الساحلية إلى الهجرة القسرية، ولن تكون الفيضانات هي السبب الوحيد وراء ذلك. فالعواصف والأمواج المدمّرة وتأثير ظاهرة المد والجزر، وتآكل السواحل وضفاف الأنهار، وزيادة ملوحة التربة والمياه؛ مما يسبب ضمور مقومات الحياة قبل أن يُضمر الماءُ اليابسة.

وتعد المالديف التي يسكنها نصف مليون نسمة وتتألف من 1200 جزيرة صغيرة، أكثر البلدان عرضة لشبح الغرق، فهي أكثر البلاد كذلك تسطحا بمتوسط ارتفاع عن الأرض يبلغ مترا واحدا فقط. مما يعني أنه مع نهاية القرن الحالي، قد تختفي 77% من الأراضي المالديفية.

وعلى مستوى المدن، فإن مدينة جاكرتا تحتفظ بلقب “المدينة الأسرع غرقا في العالم”، إذ أنها تغرق بمقدار 5 إلى 10 سم سنويا، وذلك بسبب الاستخدام المفرط للمياه الجوفية. وإذا ما جُمِع هذا العامل مع عامل ارتفاع منسوب مياه البحر، فهنا ستقع كارثة مريعة لا مفر منها.

ووفقا لمجموعة من الدراسات، فإنه بعد 25 عاما قد نشهد غرق جزء كبير من العاصمة الإندونيسية، وهو ما دفع السلطات إلى تبني مشروع بناء مدينة نوسنتارا العاصمة الوطنية الجديدة في 18 يناير/كانون الثاني 2022 بعد موافقة البرلمان على القرار.

ومن أشهر المدن المتأثرة مدينة نيويورك الأميركية الشهيرة بناطحات السحاب الشاهقة، والتي ستغدو تهديدا لقرابة نصف مليون إنسان يعيش فيها مع حلول عام 2025، فضلا عن الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي ستلحق بالحكومة الأمريكية. ففي عام 2012 عندما ضرب المدينة إعصار ساندي، دُمّر نحو ربع مليون سيارة، وتكبدت المدينة خسائر لا تقل عن 19 مليار دولار وفقا لبيان صدر عن حاكم ولاية نيويورك آنذاك.

تهديد الأمن الغذائي

وترتهن الزراعة لوفرة المياه وتقلبات مستوياته، فعبر التاريخ حرص الإنسان على الاستيطان قرب المسطحات المائية لتسهيل عمليتي الريّ والسقي، ويشترط في جودة الماء اعتدال ملوحته، فجلّ المحاصيل تعد حسّاسة للمياه المالحة. وبسبب ارتفاع منسوب مياه البحر تتسرب المياه المالحة إلى المياه السطحية والجوفية في المناطق المنخفضة، مما يجعل التربة مالحة للغاية بحيث لا تصلح للزراعة.

وفي بنغلادش التي تعد أحد أكبر مصدري السلال الغذائية في العالم، يشير تقرير صدر عن البنك الدولي المعني بالتنمية، إلى أنّ زيادة الملوحة في تربة المزارع البنغالية سيؤدي إلى انخفاض محصول الأرز بنسبة 15%، وهو من أكثر المحاصيل استهلاكا حول العالم، مع تقديرات بغرق نحو 40% من الحقول الزراعية وخروجها عن الخدمة خلال السنوات القادمة.

وفي الولايات المتحدة الأميركية وجد باحثون أنّ الأراضي المغطاة بطبقات الملح المرئية تضاعفت بين عامي 2011 و2017 على مستوى 3 ولايات فقط هي ديلاوير وميريلاندا وفيرجينا، وهو ما يعادل خسارة 19 ألف فدان وتحولها إلى مستنقعات غير صالحة للزراعة.

ولن يهدد ذوبانُ الثلج الأمنَ الغذائي في المحاصيل الزراعية فحسب، بل حتى النظام البيئي في المحيطات سيكون عرضة للتغير بسبب اختلاف درجة حرارة المحيط والبحار، حيث سيدفع الأسماك إلى تغيير مسالكها وسلوكها وأماكن تكاثرها وفقا للتيّارات الدافئة. وبالتالي ستصعب مهمة الصيّادين الذين اعتادوا أنماطا معيّنة على مدى عقود طويلة في الحصول على صيدهم.

شاركها.
Exit mobile version