مقدمة الترجمة
أحد المشكلات التي يواجهها علم الآثار في مجتمعاتنا العربية هي أنه غير قريب للناس، وبالتالي فهم لا يعرفون كيف يعمل، إذ قد يسأل سائل: ما الذي أدرى العلماء بعواطف شخص عاش قبل مئات الآلاف من السنوات؟ في هذه المادة من نيوساينتست يشرح كولين باراس إحدى طرق العلماء للإجابة عن أسئلة كهذه، عبر تتبع آثار أقدام البشر الذين عاشوا في زمن سحيق، وكيف يمكن لتلك الآثار أن تعطي معلومات جمة عن هذا العالم البعيد.
نص الترجمة
تظهر امرأة شابة تواصل سعيها متلمسة طريقها بصعوبة بالغة عبر سهول موحلة وهي تحمل طفلا عمره ثلاث سنوات على جانبها الأيسر. وما إن تضع الطفل أرضًا لتستريح قليلًا، حتى تستشعر خطرًا ربما يكون نابعًا من استبطانها المرجح للموت إذا توقفت مدّة أطول. تبدو المرأة والطفل وحيدين تماما وهدفا سهلا للقطط البرية ذات الأنياب السيفية المتوحشة التي قد تكمن في مكان قريب لرصدهما. ينحصر تفكير المرأة في النجاة فتحمل الطفل مرة أخرى وتستأنف مسيرها بسرعة إلى أن تختفي بعيدًا. لبرهة من الوقت، تبدو الأمور هادئة إلى أن يندفع كسلان أرضي عملاق ليشق طريقه عبر المسار الذي سلكته المرأة منذ قليل. وما إن يلتقط الحيوان رائحة المرأة حتى يغدو في حالة تأهب، ويبدأ فحص المكان تحسبا لوجود صيادين من الجنس البشري.
كيف كان شكل الحياة في العصر الحجري؟ لا بد أن حياة هؤلاء الأشخاص الذين عاشوا على الأرض منذ عشرات الآلاف من السنين تخللتها لحظات من الفرح والخوف والحب والألم وربما الدهشة. ومع ذلك، فالعواطف لا تتحجر أو تتحول إلى أحافير مع الزمن، وبالتالي يتعذر علينا فهم هذه اللحظات التي تفصلنا عنها هوة زمنية سحيقة. وعلى الرغم من أننا قد نجد العديد من العظام والأدوات التي تعود إلى تلك الحقبة، فإنها لن تخبرنا عن التجارب الحياتية التي خاض غمارها أسلافنا القدماء.
لهذا، قد تكون دراسة آثار أقدام البشر في العصور القديمة نافذة جديدة تطل على حياتهم وممارساتهم اليومية في تلك الحقبة الزمنية. والمثير للانتباه أن هؤلاء البشر سجلوا سلوكهم بطريقة فريدة من نوعها، فآثار أقدامهم توضح كل شيء، بدءًا من حركاتهم المضطربة التي تشي بالخوف أو التوتر، وصولًا إلى الركض بقوة وإصرار دون تردد. وبجانب ذلك كله، تحمل هذه الآثار تسلسلًا معينًا؛ مما يتيح فهم الأحداث كما لو كانت قصة متسلسلة. وأقرب مثال على ذلك هو قصة المرأة والطفل والكسلان العملاق التي تعتبر مثالا حيا وجدناه مكتوبًا في الآثار القديمة، ومع ذلك لا يمكن اعتبارها القصة الوحيدة بالتأكيد، فالاكتشافات المتزايدة المتعلِّقة بآثار الأقدام تفصح عن صورة جديدة للماضي، بدايةً من توزيع العمل بين الجنسين وصولا إلى سلوك الحيوانات المنقرضة منذ آمادٍ بعيدة.
تشكَّلت نقاط ثِقل إدراكية لدى العلماء منذ عقود اتجاه إمكانية تحول آثار الأقدام إلى حفريات. في عام 1976 -على سبيل المثال- اكتشف فريق بحث آثار أقدام عمرها 3.7 ملايين سنة في لاتولي، وهو موقع أثري في تنزانيا. تمتعت هذه الآثار بأهمية خاصة فور اكتشافها لقدرتها على إظهار أن نوعًا مبكرًا يُدعى “أسترالوبيثكس أفارينيسيس” كان يسير على قدمين (ويُعتبر أشهر مثال عليه هو أحفورة تدعى لوسي). في ذلك الوقت، تعامل المتخصصون مع آثار الأقدام بوصفها مصدرا هاما للأدلة على الحقائق التشريحية الأساسية للأنواع. ومع ذلك، لم يؤدِّ الاكتشاف في موقع لاتولي إلى إثارة حماس العلماء للبحث عن مزيد من آثار الأقدام.
فسّر ماثيو بينيت من جامعة بورنموث بالمملكة المتحدة سبب ذلك بقوله: “كان يُعتقد أن آثار الأقدام نادرة حقًّا”. إذ يرى أن عدم إبداء الباحثين اهتماما كافيا بآثار الأقدام كان أمرًا مؤسفًا، لأنها ببساطة شائعة بالفعل وموجودة بكميات هائلة قد تصل إلى مليون خطوة لكل شخص سنويًّا، لذلك حتى وإن انتهت نسبة صغيرة فحسب بوصفها حفريات، فسيظل هذا العدد ضخمًا. وعن ذلك، يقول كيفن هاتالا من جامعة تشاتام في بيتسبرغ، بنسلفانيا: “تملك عظامي فرصة واحدة لإدراجها ضمن السجل الأحفوري، في حين أن جميع الخطوات التي أخطوها يوميا تُمثل فرصة هائلة لأن تتحول فيما بعد إلى بقايا يمكن أن تُحفَظ في السجل الأحفوري.”
على الجانب الآخر، يرى الباحثون أن من أجدى السبل التي يمكن من خلالها الحفاظ على آثار الأقدام أن يسير الشخص فوق طبقة من الرماد الناجم عن ثوران بركاني، ستتصلب بعد ذلك بصورة مشابهة للخرسانة السريعة الجفاف بمجرد تعرضها للرطوبة. هذه هي الطريقة التي تحجرت بها آثار الأقدام في موقع لاتولي. ومع ذلك، لا تزال هذه عملية نادرة الحدوث لأن الأكثر شيوعا هو أن تُغطَّى آثار الأقدام في الرمال الرطبة أو الطين سريعا بطبقة من الرمل الجاف والغبار المتناثر جراء العواصف.
وعندئذٍ تُدفَن وتتحجر ثم تتعرض لعمليات جيولوجية قد تدفعها إلى السطح مرة أخرى. وعلى الرغم من أن آثار الأقدام القديمة لم تحظَ بأولوية أثرية لعقود من الزمن، فقد تغيرت الأمور أخيرًا. خلال العقود العشرين الماضية، شهدنا طفرة في عدد مواقع آثار الأقدام القديمة. فقد أصبح من السهل العثور عليها حاليا في كل ركن من أركان العالم تقريبًا: في أفريقيا، و أوروبا، وشبه الجزيرة العربية، وأستراليا والأميركتين.
تعقب الأثر
أصبحت دراسة آثار الأقدام حاليا هي الأمل الذي نستضيء بنوره لاكتشاف خبايا الماضي، وذلك بقدرتها على تقديم صورة مُفصلَّة ومثيرة للدهشة عن الماضي. فعلى سبيل المثال، أكَّدت التجارب المعملية أن حجم وشكل قدم شخص ما يمكن أن يُنبِئ نسبيا بحجم جسمه بدقة. ونظرًا إلى أن حجم الجسم يختلف عموما بين الجنسين، فقد نتمكن من تقدير جنس الفرد من آثار أقدامه. ومن المعروف أيضًا أن طول القدم يبلغ حوالي 15% من الارتفاع الكلي للفرد، في حين أن المسافة بين آثار القدم نفسها تسمح لك بتقدير سرعة مشي هذا الفرد أو جريه. تأكيدًا لذلك، تقول عالمة الآثار آشلي وايزمان من جامعة كامبريدج: “يمكن لآثار الأقدام أن تعكس طولك، وعمرك، وجنسك، وربما حتى وزنك”.
في إحدى الدراسات التي أُجريت عام 2020 على أكثر من 400 أثر قدم في موقع في تنزانيا يسمى “إنجاري سيرو” (Engare Sero)، استعان هاتالا وزملاؤه بالاستنتاجات السابقة لإعادة بناء مشهد يرجع تاريخه إلى ما يقرب من 12,000 سنة. وتوصلوا إلى أن هذه الآثار تعود إلى ما لا يقل عن 17 شخصًا من جنسنا البشري، مما يجعلها أكبر مجموعة من آثار الأقدام البشرية القديمة التي عُثر عليها في أفريقيا. استنتج الباحثون في النهاية أن هذه المجموعة ربما تألفت من 14 امرأة ورجلين وشاب يافع، إضافة إلى أن جميع أفراد المجموعة كانوا يسيرون بوتيرة واحدة تتراوح بين 1.2 و1.5 متر في الثانية، وهو ما يوحي بأنهم كانوا يسافرون معًا.
وبفضل هذا النوع من الأدلة، قد نتمكن من تقديم تخمينات مدروسة حول ما كان يقوم به هؤلاء الأشخاص. فمثلا، في المجتمعات الحديثة للصيادين وجامعي الثمار، غالبا ما تتعاون النساء معًا للبحث عن الطعام، ولعل هذا ما كان يحدث أيضا في مجتمعات الصيد القديمة. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يخبرنا شيئًا عن تقسيم العمل بين الجنسين في نهاية العصر الحجري. وعن ذلك، يقول هاتالا: “لا أعرف كيف يمكن لأدلة أثرية أخرى أن توفر مستوى من الفهم والتحليل للديناميكية الاجتماعية كما توفره آثار الأقدام”. أما أكثر الأشياء التي أثارت فينا شعورا بالدهشة فهي آثار أقدام عُثر عليها في موقع يسمى حديقة وايت ساندز الوطنية في ولاية نيو مكسيكو الأميركية. تحيط بهذه المنطقة النائية مجموعة من المناطق العسكرية، كما تحتوي على كثبان رملية ومسطحات ملحية رائعة كفيلة بجذب صنَّاع الأفلام.
يضم الموقع بحيرات مجففة ضخمة شهدت لفترة طويلة آثار أقدام متحجرة لحيوانات منقرضة. وفي عام 2017، عثر ديفيد بوستوس -الذي يعمل في خدمات حديقة وايت ساندز الوطنية- على آثار أقدام بشرية. بعد ذلك بفترة وجيزة، سافر ماثيو بينيت من جامعة بورنموث بالمملكة المتحدة إلى هناك للبحث عن مزيد من آثار الأقدام. ومنذ ذلك الحين، بدأ الاستقصاء عن ذلك بصورة مكثفة. يقول بينيت: “تضم معظم الطرقات في وايت ساندز زوجين من البالغين ومجموعة من الأطفال. تُظهر آثار الأقدام حركة تجول عائلية عادية عبر المناظر الطبيعية، وهو نوع من المشاهد التي تتوقعها من عائلة تتجول بعد ظهر يوم الأحد”.
ومع ذلك، عثر بينيت وبوستوس وزملاؤهم على مجموعة مختلفة من آثار الأقدام. فقد اكتشفوا آثار أقدام لشخص واحد يسير في خط مستقيم، واتضح أن هذه هي الآثار التي كشفت قصة الشابة والطفل وحيوان الكسلان التي تحدثنا عنها سابقا. لكن بينيت وبوستوس لم يعلما ذلك عندما قررا البدء في متابعة الدرب لاكتشاف آثار الأقدام. وسرعان ما أدرك الباحثان انقسام آثار الأقدام إلى اتجاهين، إذ يسير بعض أصحاب تلك الآثار نحو الشمال مسافة لا تقل عن 1.5 كيلومتر، في حين يسلك الآخرون المسار ذاته اتجاه الجنوب. وقد استنتجا أن آثار الأقدام التي كانت تتجه شمالًا جاءت أولًا لأنها تقاطعت مع آثار حيوانين كبيرين ومنقرضين الآن، وهما الماموث والكسلان الأرضي العملاق، في حين تقع الآثار البشرية المتجهة جنوبًا -في المقابل- فوق آثار أقدام الحيوانات. وهذا التقاطع والتشوه جزئيًّا يدل على أن البصمات البشرية جاءت بعد الحيوانات.
لم يُظهِر التحليل الإحصائي أي اختلاف واضح في حجم وشكل آثار الأقدام الموجودة في الاتجاهين الشمالي والجنوبي، لذا فعلى الأرجح أن يكون قد تركها شخص واحد. يقول بينيت “إن حقيقة عدم انحراف هذا الشخص عن مساره في أي من الرحلتين تترك لنا الكثير مما يجدر بنا تأمله، إذ توحي في الغالب بأنه كان في مهمة ما”. أما فيما يتعلق بهوية الشخص الذي ترك هذه البصمات، فأكَّد بينيت وفريقه أن آثار الأقدام هذه تركها شخص نحيل، وأنه على الأرجح امرأة شابة. ومن الواضح أيضا أنها كانت في عجلة من أمرها. وبحساب الأرقام، سُجلتْ سرعتها بمعدل 1.7 متر في الثانية، وهو أسرع من متوسط سرعة المشي الحديثة، وهو ما يُعتبر أمرا مُدهشا نظرا إلى ضراوة الطريق وصعوبة السير في تلك الظروف، إذ تُظهر آثار الأقدام الكثير من الأدلة على أن المرأة انزلقت وهي مسرعة في طريقها. وعن ذلك يقول بينيت: “على الأغلب كانت هناك حاجة ملحة للتحرك”.
في مهمة خاصة
تزيح آثار أقدام هذه الشابة الستار عن المهمة الموكلة إليها. فخلال رحلتها إلى الشمال، تُظهِر بعض آثار قدمها اليسرى انزلاقًا دورانيًّا في الطين الناعم، مما يمنحها شكل الموزة. ويشتبه بينيت في أنها كانت غير متوازنة من جانبها الأيسر لحملها عبئًا على هذا الجانب. بعد ذلك بقليل تتضح لنا ماهية هذا العبء. فعلى طول المسار الشمالي، تظهر مجموعة لآثار أقدام طفل لا يزيد عمره على 3 سنوات. ويبدو أن المرأة كانت تحمله ثم تضعه بين الحين والآخر، ربما لتستريح هي أو ليستريح الطفل. لكننا لا نعرف الوجهة التي تتخذها المرأة بالضبط، فآثار أقدامها تختفي تدريجيا في الاتجاه الشمالي، تحديدًا في النطاق العسكري المحيط بحديقة وايت ساندز، وهي منطقة محظورة لا يمكن الوصول إليها للتحقيق. ومع ذلك، لا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أن المرأة استمرت في حمل الطفل أثناء اتجاهها جنوبًا. ويمكن تفسير ذلك على أن مهمتها كانت تتمحور حول تسليم الطفل لشخص ما. وسواء نجحت في ذلك أم لا، فقد عادت وحدها في كلتا الحالتين.
قصص كهذه تعني الكثير لكيم تشارلي وبوني لينو، وهما من قبيلة أكوما التي تقع بالقرب من ألباكركي في نيو مكسيكو، وهي واحدة من عدة مجموعات من شعوب البويبلو (سكان أميركا الأصليين في جنوب غرب الولايات المتحدة*) الذين يشعرون بآصرة روحية تربطهم بحديقة وايت ساندز الوطنية. تُعتبر تشارلي عضوًا في اللجنة التنفيذية للمكتب الإقليمي لحفظ التراث التاريخي القبلي، في حين أن شقيقتها لينو تعمل مراقبة قبلية معتمدة، مما يعني أنها تتعاون مع العلماء لمشاركة معرفتها بالمنطقة. زارت كلتاهما وايت ساندز لرؤية علماء الآثار أثناء عملهم. وتعليقا على ذلك، تقول تشارلي: “ما يحدث في الحقيقة هو أمر مدهش، لا توجد كلمات يمكنها وصف ما تشعر به عندما تكون هناك بالفعل”. اكتشفتْ لينو بعض آثار الأقدام بنفسها خلال زيارتها، بما في ذلك آثار أقدام بشرية بالقرب من آثار حيوان الكسلان العملاق. وبفضل معرفتها بالمنطقة، تتمتع لينو بمعرفة جيدة بأماكن إقامة الناس في الماضي ومسارات سفرهم، وتقول: “يمكنك أن تقول إننا نرى أشياء تتجاوز نطاق رؤية علماء الآثار، ربما لأن هؤلاء كانوا أسلافنا”.
وعلى الجانب الآخر يحذِّر بينيت من أخطار تضخيم نتائج تحليل آثار الأقدام من أجل صياغة قصة جذابة. فمن المغري افتراض أن المرأة سارعت لأنها كانت تخشى القطط ذات الأنياب السيفية، لكننا لن نعرف الحقيقة أبدًا. ومع ذلك، فإن آثار الأقدام تقربنا أكثر من أي وقت مضى من فهم مشاعر هؤلاء البشر في تلك الحقبة الزمنية. تشير الأدلة إلى أن الخوف كان حاضرًا بقوة في ذلك اليوم ويخيِّم على أنواع مختلفة من الكائنات الحية. أظهر الكسلان العملاق سلوكًا غريبًا عندما عبر المسارات التي اتخذتها المرأة اتجاه الشمال، وتشير آثار أقدامه إلى أنه وقف على قدميه الخلفيتين وتحرك بصورة دائرية.
وفقًا لبينيت، فإن هذا الحيوان التقط رائحة المرأة وسرعان ما اعتراه قلق من وجود صيادين محتملين، لهذا استمر في فحص المكان المحيط به. يرى بينيت أن سلوك حيوان الكسلان كان في ذلك الوقت سلوكًا طبيعيًّا ويوضح ذلك قائلًا: “توجد العديد من آثار أقدام الكسلان العملاق في أماكن أخرى في وايت ساندز التي توضح أن هذه المخلوقات عادة ما تتحرك في خط مستقيم تقريبا، لكن في بعض الأحيان تتخذ مسارات مختلفة، إذ فجأة تتغير آثار الأقدام متخذةً اتجاها مختلفا. وما إن ننظر إلى تغيير المسار هذا، حتى نعثر على آثار أقدام بشرية”. (وهو ما يعتبر دليلا على تداخل بين آثار أقدام الإنسان وحيوان الكسلان في هذه المنطقة، مما يشير إلى تفاعل بين البشر والحيوانات في ذلك الوقت*).
تأثير الخوف في سلوك الحيوانات
في عام 2018، أجرى بينيت وزملاؤه دراسة صوروا فيها عملية صيد البشر لحيوان الكسلان عن طريق تتبع آثار أقدامه قبل الهجوم. وبخلاف حيوان الكسلان الذي كان يخشى البشر، تبنت حيوانات أخرى موقفا مختلفًا، إذ لاحظ فريق البحث أن آثار أقدام الماموث وحتى الإبل لا تغيّر مسارها عندما تجد آثار أقدام بشرية وهو ما يخبرنا عن شعورها بالسلام وعدم التوتر إزاء الأميركيين الأوائل. وعن ذلك يقول بينيت: “تساهم هذه الدراسات والاكتشافات في إعادة إحياء تاريخ وسلوك الحيوانات القديمة”.
لا تتعلق آثار الأقدام في وايت ساندز بالصراع الشاق من أجل البقاء، بل ثمة لحظات من الفرح الخالص اكتشفها بينيت وفريقه في أبحاث غير منشورة لهم. عثر الفريق على آثار أقدام متناثرة بفوضوية لمجموعة من الأطفال، أكبرهم لا يتجاوز عمره 6 سنوات. تتركز آثار أقدامهم الصغيرة فوق آثار كبيرة تركها كسلان عملاق وراءه. يرى بينيت أن الاستنتاج المنطقي من ذلك هو أن الأطفال كانوا يرقصون ويركضون في البرك الموحلة التي تركتها آثار أقدام الكسلان العميقة. يقول بينيت: “لطالما أحب الأطفال القفز في البرك، وقصص كهذه يمكنها أن تربط الناس بالماضي”.
وبغض النظر عن الحكايات الجميلة، فلا تزال آثار الأقدام تتمتع بقدرة على إثارة المفاجآت حول التاريخ العظيم للبشرية، فقد يؤدي موقع وايت ساندز دورًا محوريًّا للإجابة عن بعض الأسئلة المثيرة للجدل على غرار: متى بدأ البشر استيطان أميركا الشمالية لأول مرة؟ لعقود من الزمن، كان من المفترض أن المستوطنين الأوائل مرتبطين بثقافة كلوفيس، (التي تعود إلى العصر الحجري، وتعتبر واحدة من أولى الثقافات التي عرفتها أميركا الشمالية، وتشتهر بأدواتها الحجرية المتقنة، خاصةً رؤوس الرماح والأدوات الحادة المستخدمة في الصيد.*) لكن ثمة إجماع حاليا على أن هذه الثقافة التي يبلغ عمرها 13,000 عام ليست أقدم دليل على النشاط البشري في الأميركتين، بل تشير الأدلة الأثرية والجينية إلى أن الناس بدؤوا حياتهم هناك قبل حوالي 15,000 عام. ومع ذلك، لا تزال هناك شكوك تدور على غير هدى حول ما إذا كانت هذه هي النتيجة النهائية، فقد عثر عدد من علماء الآثار على أدلة تشير إلى وجود البشر في أميركا الشمالية قبل آلاف السنين -أي في ذروة العصر الجليدي- إلا أن هناك من يشككون في صحة هذه الأدلة.
في أحد الأيام، عثر بينيت وزملاؤه في متنزّه وايت ساندز على مجموعة من آثار الأقدام البشرية التي تمتد عبر تربة طينية إلى أن تختفي تحت تلة صغيرة، وهو ما يوحي بأن آثار الأقدام هذه أقدم من التلة نفسها. وبصورة حاسمة، تمكن الباحثون من اختبار افتراضهم لأن التربة المحيطة بالآثار تحتوي على بذور عشب يمكن تأريخها بالكربون المشع). جميع الكائنات الحية تمتص الكربون من الغلاف الجوي، بما في ذلك الكربون-14 الذي يُعتبر نظيرا غير مستقر يضمحل بمعدل معروف. وعندما تموت النباتات أو الحيوانات، فإنها تتوقف عن امتصاص الكربون، ويضمحل الكربون المشع المتراكم بالفعل.
ويمكن تحديد عمر المادة من خلال الكمية الموجودة من الكربون-14، وتُستخدم هذه الطريقة على نطاق واسع في علم الآثار وعلم الجيولوجيا لتحديد أعمار الأشياء العضوية القديمة مثل العظام والنباتات والأخشاب*). وفي سبتمبر/أيلول 2021، أعلنوا أن آثار الأقدام البشرية التي بلغ عددها 61 أثرا، تعود إلى ما بين 21,000 و23,000 عام. وهو ما اعتبروه دليلا قاطعًا حتى الآن على أن استيطان أميركا قد حدث في وقت أبكر بكثير مما كنا نعتقد.
في السياق ذاته، يقول الباحث سيبريان أرديليان من جامعة زاكاتيكاس المستقلة في المكسيك، الذي توصل أيضًا إلى أدلة أثرية تشير إلى وجود البشر في الأميركتين قبل 20,000 عام: “تُعدُّ منطقة وايت ساندز اكتشافا رائعًا”. لكنه في الوقت ذاته لا يعتقد أن الاكتشافات المتعلِّقة بآثار الأقدام ينبغي أن تقلل من أهمية علم الآثار التقليدي الذي يعتمد على القطع الأثرية مثل الأدوات والمباني والآثار الأخرى. ومع ذلك، فقد رأى أن موقع وايت ساندز قد يكون محوريا في فهم تاريخ الأميركيين الأوائل، وبالتالي كتابة القصة التاريخية لهذه الفترة الزمنية الهامة.
يأمل بينيت أن يشجع العمل في وايت ساندز علماء الآثار الآخرين على البحث عن آثار الأقدام في مناطق أخرى من العالم، لأن الجزء الأكثر أهمية في هذه القصة هو احتمال ألا تكون وايت ساندز بهذه الأهمية والاستثنائية بالنسبة لبقية المناطق في العالم. تأكيدا على ذلك، يقول بينيت “يوجد العديد من الأحواض الجافة الأخرى في جنوب غرب الولايات المتحدة”. وقد تحتوي أيضًا على آثار أقدام بشرية متحجرة في انتظار أن يسرد أحد قصصها القديمة وكيف كانت الحياة في الماضي السحيق.
لأكثر من قرن من الزمان، ظل علماء الآثار في حيرة من أمرهم بشأن آثار أقدام بشرية يبلغ عمرها 17,000 عام تقريبا عثُر عليها في أحد الكهوف بجنوب فرنسا. صُنعت العديد من آثار الأقدام هذه باستخدام كعب القدم فقط، وهو ما أفضى إلى احتمال كونها دليلا على وجود بعض الطقوس الدينية المرتبطة بنحت تمثالين من البيسون (الثور الأميركي) مشابهين للواقع في هذا الكهف. في عام 2013، دعا فريق أوروبي ثلاثة أفراد من قبيلة جو/ هوانسي في ناميبيا لامتلاكهم مهارات متميزة في تتبع أثر الحيوانات والتحرك في البيئة البرية، وجلبوهم لإلقاء نظرة على آثار الأقدام التي اكتشفوها في هذا الكهف. يقول دام ديبي، وهو أحد متتبعي الأثر من قبيلة جو/ هوانسي وأحد أفراد الفريق: “أخبروني أن الأمر يمثل تحديًا. وبالفعل اكتشفنا أن آثار الأقدام كانت أقدم بكثير من تلك التي يصادفها المتتبعون عادةً”.
ومع ذلك، توصل الفريق إلى تفسير جديد للأحداث التي وقعت في الكهف منذ آلاف السنين. اتضح أن آثار الأقدام كانت لمراهق ورجل في الثلاثينيات من عمره انشغلا بجمع الطين من حفرة صغيرة في أرضية الكهف لصنع تمثال البيسون. وبالتالي يبقى السؤال الأهم هنا: لماذا ساروا على كعبيهم؟ وفقا لفريق المتتبعين، يمكن لأي شخص مطلّع أن يتعرف على أفراد شعبه بتتبع الأثر الكامل لقدمه. صحيح أن المشي على كعوب القدم أمر غير مريح، إلا أنه وسيلة فعالة لإخفاء هوية شخص ما، وهو الأمر الذي ربما كان مهمًّا للنحاتين إذا ارتبط العمل الفني بطقوس دينية. (ربما كان إخفاء الهوية جزءًا من الأسرار والممارسات الدينية التي تعزز القدسية والغموض المحيط بالطقوس*).
______________________
* إضافة من المترجم
هذه المادة مترجمة عن موقع نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت