لم يكن هناك فهم أعمق لطبيعة الكون مما جاء على لسان عالم الفيزياء النظرية الألماني “ألبرت أينشتاين” حينما وصفه بأنّه نسيج ديناميكي مترابط يتقاطع فيه الزمان والمكان في كيان واحد يُعرف بـ”الزمكان”، وأنّ هناك علاقة وطيدة تربط بين الطاقة والكتلة تفسّر وجود المادة حولنا.
وعليه، فقد صاغ تلك المفاهيم في إطار رياضي موحد يُعرف بحقل معادلات “أينشتاين”، وتنبأت حلول تلك المعادلات المعقدة والمليئة بالرموز الرياضية المرتبة في نسق بالغ الدقة بوجود ظواهر فلكية مثيرة مثل الموجات الثقالية والثقوب السوداء والتأثير الجاذبي على الضوء وتمدد الزمن وتحدب الكون وانغلاقه على نفسه، وغيرها من الظواهر.
وأكدت التجارب العلمية صحة تلك الادعاءات، ابتداء من بعثتي الفلكيين “فرانك واتسون دايسون” و”آثر ستانلي إدينغتون” اللذين انطلقا برحلتين منفصلتين في عام 1919 لتتبّع كسوف كلّي للشمس، أحدهما اتجه إلى جزيرة “برينسيبي” قبالة سواحل القارة الأفريقية غربا، والآخر نحو “سوبرال” في البرازيل، وكانت المهمة هي قياس مدى تأثر ضوء النجوم بكتلة الشمس عند مروره بالقرب منها.1
وخلال العقود التالية، توالت الاكتشافات الفلكية مؤكدة لتنبؤات “أينشتاين”، وكان التقاط صور مباشرة لظلّ ثقب أسود في مناسبتين خلال الأعوام القليلة الماضية هو آخر تلك الإنجازات الفريدة. ولا ينبغي أن تقتصر دلالات النسبية على العوالم البعيدة فحسب، بل إنّ ثمّة شواهد حقيقية مباشرة يمكن الاستدلال بها على صحة النظرية، حتّى أنّها باتت تمثّل جزءا من حياتنا اليومية.
ما علاقة نسبية أينشتاين بالحركة والسرعة؟
طرح العالم الألماني الشاب نظريته الأولى في النسبية في عام 1905، والتي تُعرف بالنسبية الخاصة، شارحا العلاقة بين السرعة والكتلة والطول والزمن، وفسّر كذلك أحد أهم أركان الفيزياء الحديثة وهو تأصيل وشرح مفهوم الإطار المرجعي، والذي يقصد فيه النظام الإحداثي الذي يستند عليه المراقب في قياس الظواهر الفيزيائية على حركة الأجسام.
وقد اعتمد “أينشتاين” في النسبية الخاصة على أن يكون هذا الإطار المرجعي “عطاليا” دون تسارع، أي أنّ يكون النظام الإحداثي في حالة سكون أو ثبات في السرعة.
ووفقا للنسبية، تعد قوانين الفيزياء ثابتة ومتجانسة لجميع المراقبين الذين يتحركون بحركة منتظمة بالنسبة لبعضهم البعض، وهو مبدأ يُعرف بـ”ثبات القوانين الفيزيائية”، مما يعني أنه بغض النظر عن مدى سرعة المراقبين، فإن المبادئ الفيزيائية الأساسية التي تحكم الكون تظل ثابتة.
لكن في حال اختلفت سرعة المراقبين ولم تتساوَ، فإنّ النسبية الخاصة تبرز أهميتها هنا وتقدّم مفاهيم جديدة حول الزمن والمسافة بأنّهما قيم ليست مطلقة؛ كونهما يعتمدان على الحركة النسبية للمراقب والجسم المراقب معا.
وهذا من شأنه أن يؤدي إلى ظواهر فلكية مذهلة مثل تمدد الزمن وتباطؤه، إذ تدور عقارب الساعة في الأجسام المتحركة بشكل أبطأ مما هو عليه الحال عند المراقب الذي يبقى ساكنا أو في سرعة أبطأ، بالإضافة إلى أنّ الطول يتقلّص وتبدو الأجسام المتحركة أقصر في اتجاه الحركة، وأخيرا فإن كتلة الأجسام المتحركة تزداد ظاهريا كما يراها مراقب ساكن. ولا تتحقق تلك التغيرات بشكل ملحوظ إلا إذا كانت سرعة الأجسام نسبية مع سرعة الضوء، أي تعادل جزءا لا يقل عن حوالي 10-20% أو أكثر من سرعة الضوء.
مبادئ النسبية الأساسية
تعتمد النسبية في مبادئها الأساسية على ثلاثة عوامل:
- اعتماد الإطار المرجعي العطالي
- للضوء سرعة قصوى في الكون ولا يمكن لأيّ شيء تجاوزها، وتعادل 300 ألف كيلومتر في الثانية، وفي حال جمع السرعات، فإن السرعة القصوى بينهما ستكون سرعة الضوء فقط، حتى وإن تحرك الجسمان بسرعة الضوء.
- سرعة الضوء لا تتغيّر مهما اختلفت سرعة المراقب.
نظام التموضع (الملاحة) العالمي
يُعد نظام التموضع العالمي (جي بي أس) أبرز التطبيقات المباشرة على النسبية، إذ بات جزءا لا يتجزأ في معظم المركبات والهواتف بعد أن كان مقتصرا على الاستخدامات العسكرية فحسب، ويعتمد هذا النظام على مجموعة واسعة من الأقمار الصناعية التي تحيط بالكوكب في “المدار الأرضي المتوسّط” على مسافة 20 ألف كيلومتر تقريبا، لتوفّر معلومات دقيقة حول إحداثيات المواقع على سطح الأرض تحت أيّ ظرف جوّي.
ويظهر أثر النسبية جليا على نظام التموضع العالمي على مستويين؛ الأوّل وهو على مستوى اختلاف السرعة، فالأقمار الصناعية تبلغ سرعتها 14 ألف كيلومترا في الساعة، قاطعة بذلك دورتين كاملتين حول الأرض في اليوم الواحد، وهذه سرعة عالية مقارنة بتلك الساعات الموجودة على الأرض، وعليه يحدث تمدد زمني نسبي يبلغ حوالي 7 ميكروثانية في اليوم لصالح الأقمار الصناعية.
أما الأثر الثاني فيتمثل في اختلاف تأثير الجاذبية على الأقمار الصناعية، إذ يقدّر هذا التأثير أضعف بأربع مرّات من تأثير الجاذبية على سطح الأرض، وعليه، فإنّ الساعة في القمر الصناعي تمضي بشكل أسرع بنحو 45 ميكروثانية في اليوم.
وبعملية حسابية بسيطة، فإنّ النتيجة النهائية هي أنّ الوقت بالنسبة للأقمار الصناعية التابعة لنظام التموضع العالمي يتأخر عما هو عليه الحال على الأرض بنحو 38 ميكروثانية في اليوم.
ورغم أنّ هذا القدر يبدو ضئيلا، فإنّ العواقب وخيمة وستتراكم إزاحة نسبية مع مرور الوقت في حال لم تؤخذ بعين الاعتبار قوانين النسبية في النظام الملاحي، فمحطّة الوقود التي تبعد عنك 1 كيلومتر ستكون قد ابتعدت عنك 10 كيلومترات في نهاية يوم واحد فقط.2
النسبية والكهرومغناطيسية
للنسبية تأثير مباشر على المجال المغناطيسي الكهربائي، وهو مغناطيس يتولّد مجاله المغناطيسي عن طريق مرور تيار كهربائي منتظم في سلك ما، وقد لا يكون ذلك التأثير واضحا في الوهلة الأولى إلا أنّ أخذه بعين الاعتبار ضروري. فعندما يتدفق التيار الكهربائي عبر سلك لإنشاء مجال مغناطيسي كهربائي، تتأثر حركة الإلكترونات في السلك بمبادئ النسبية.
ووفقا لنظرية النسبية لأينشتاين، عندما تتحرك الجسيمات (مثل الإلكترونات) بسرعات عالية جدا، تزداد كتلتها وينكمش طولها كذلك، وعندما يتدفق التيار عبر سلك، فإنه يولد مجالا مغناطيسيا حول السلك. يتفاعل هذا المجال المغناطيسي مع مجالات مغناطيسية أخرى قريبة، أو مع مواد موصلة، لإنتاج تأثيرات مفيدة مثل جذب أو تنافر الأشياء، أو تحريض التيار في الأسلاك القريبة.
وتتأثر قوة وسلوك هذه المجالات المغناطيسية بالتأثيرات النسبية لأن سرعة الإلكترونات، على الرغم من أنها ليست قريبة من سرعة الضوء، لا تزال تؤثر على كيفية توليد المجال المغناطيسي وانتشاره.
وعلاوة على ذلك، فعندما يتدفق التيار عبر سلك ويتفاعل مع سلك آخر قريب، فإن الحركة النسبية للإلكترونات في كلا السلكين (بسبب التيار) تؤثر على كيفية تفاعلهما معا مغناطيسيا، وهذا التفاعل، الذي تحكمه القوى الكهرومغناطيسية وتتأثر بمبادئ النسبية، ويشكل أساس عمل الأجهزة الكهروميكانيكية مثل المحولات والمحركات والمولدات المستخدمة باستمرار في حياتنا اليومية.3
ما علاقة النسبية بلون الذهب الأصفر؟
ينتمي الذهب إلى مجموعة مميّزة من المعادن التي تُعرف بـ”الفلزات الانتقالية”، والتي تشمل أيضا النحاس، وهما عنصران يمتلكان إرثا طويلا في تاريخ البشرية في مجال سك العملة والتداول. وعلى خلاف معظم هذه الفلزات التي تتميز بلونها الفضي، يتمتع الذهب بلونه الأصفر البراق، الذي يُطلق عليه أحيانا اللون الذهبي. ويتضح أن لقوانين النسبية تأثيرا مباشرا في اكتساب الذهب لهذا اللون المميّز عن بقية المعادن، ويُعرف هذا التأثير بـ”كيمياء الكم النسبية”.
تصف “كيمياء الكم النسبية” كيف أن الجسيمات عند تحركها بسرعات عالية قريبة من سرعة الضوء تكتسب طاقة إضافية وتتحوّل إلى كتلة، وتصبح هذه الظاهرة مهمة للذرات ذات الأعداد الذرية العالية مثل الذهب. ووضع العالم الفيزيائي الألماني “أرنولد سومرفيلد”، معادلة تقريبية لحساب سرعة الإلكترون داخل الذرة بالنسبة إلى سرعة الضوء، وهي مفيدة لفهم التأثيرات النسبية في العناصر الثقيلة.
ووفقا للمعادلة الرياضية فإنّ الذهب الذي يمتلك عددا ذريا يساوي 79، تتحرّك فيه الإلكترونات بسرعة تقدر بحوالي 58% من سرعة الضوء في المدار الذري الخارجي، في حين تصل سرعتها إلى 90% من سرعة الضوء في المدارات الداخلية.
وتشتهر معظم المعادن بأنّها لامعة لأنّ الإلكترونات في ذراتها تقفز بين مدارات طاقة مختلفة، وعندما تصطدم الفوتونات (جسيمات الضوء) بسطح المعدن، تُمتص بعضها ثمّ تنبعث مجددا لكن بأطوال موجية مختلفة، بينما ينعكس معظم الضوء المرئي مما يمنح المعدن مظهره اللامع.
وفي الذهب، كونه عنصرا ثقيلا يحتوي على إلكترونات داخلية تتحرّك بسرعة كبيرة بسبب التأثيرات النسبية، تجعل هذه التأثيرات الإلكترونات تسير في مسارات أقصر وأكثر طاقة حول النواة، مما يغير ديناميكيات الطاقة بحيث تصبح الأطوال الموجية للضوء التي يتم امتصاصها وانعكاسها بواسطة الذهب أطول.
ونتيجة لذلك، يمتص الذهب الأطوال الموجية الأقصر من الضوء مثل اللون الأزرق، ويعيد إطلاقها لكن بأطوال موجية أطول من الضوء، مثل الأصفر، وينطبق الأمر كذلك على معدن السيزيوم والذي يظهر بذات اللون لأسباب مماثلة.4
لماذا الزئبق سائل وباقي المعادن صلبة؟
يقع الزئبق مباشرة بعد الذهب في الجدول الدوري وله آثار نسبية واضحة تظهر في حالته السائلة عند درجة حرارة الغرفة، على عكس جميع المعادن الأخرى التي تكون صلبة في نفس درجة الحرارة. ووفقا لنظرية النسبية، تتحرك الإلكترونات الداخلية في العناصر الثقيلة مثل الزئبق بسرعة كبيرة، مما يؤدي إلى تغيّر في سلوكها إذ تكتسب كتلة نسبية إضافية وتتقلص مدارات الذرّة نفسها، وتقترب الإلكترونات أكثر من النواة التي تحتوي على عدد كبير من البروتونات.
يؤثر هذا الانكماش النسبي على كيفية ارتباط ذرّات الزئبق ببعضها البعض، فعادة، تكوّن المعادن روابط قوية لأن إلكتروناتها يمكنها التحرّك بحرية، مما يخلق “بحرا” من الإلكترونات السابحة فيه. لكن في حالة الزئبق، يقلل الانكماش وزيادة طاقة ربط الإلكترونات -بسبب السرعة العالية- من فرص حدوث نفس نوع الترابط الذرّي القوي. ونتيجة لذلك، لا تلتصق ذرّات الزئبق ببعضها البعض بقوة مثل ذرات المعادن الأخرى، مما يجعله في حالة سائلة عند درجة حرارة الغرفة.
وربّما يتساءل القارئ عن بقية العناصر الكيميائية الأثقل من الزئبق، لمَ لا تكون في حالة سائلة هي الأخرى إذا كانت تتأثر بالنسبية؟ والإجابة تكمن في عدد الإلكترونات الموجودة في المدار الخارجي (غلاف التكافؤ)، والتي تحدد طبيعة العلاقة بين ذرات العنصر. فعلى سبيل المثال، الذرات الثقيلة مثل الرصاص واليورانيوم تمتلك عددا كافيا من الإلكترونات لتشكيل روابط قوية صلبة عند درجة حرارة الغرفة، على عكس الزئبق.
المصادر:
[1] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). دايسون وإدينجتون يقدمان أول دليل تجريبي على النسبية العامة. الاسترداد من: https://www.historyofinformation.com/detail.php?id=1682
[2] ويل، م. كليفرد (2006). نسبية أينشتاين والحياة اليومية. الاسترداد من: https://www.gps-forums.com/threads/einsteins-relativity-and-everyday-life-clifford-m-will.36162/
[3] بارد، إس. كريستوفر (2016). كيف يكون المجال المغناطيسي مجرد مجال كهربائي مع تطبيق النسبية؟. الاسترداد من: https://www.wtamu.edu/~cbaird/sq/2016/02/18/how-is-a-magnetic-field-just-an-electric-field-with-relativity-applied/
[4] محررو الموقع (2015). نظرية النسبية لأينشتاين تشرح الخصائص الأساسية للذهب. الاسترداد من: https://www.uni-heidelberg.de/presse/news2015/pm20151029_einsteins-theory-of-relativity-explains-fundamental-properties-of-gold.html
[5] هاوس، لورا (2013). النسبية وراء سيولة الزئبق. الاسترداد من: https://www.chemistryworld.com/news/relativity-behind-mercurys-liquidity/6297.article