في مقاطعة هوايرو الصينية إلى الشمال من العاصمة بكين، يقبع مُجمَّع ضخم من المباني الرتيبة المتشابهة والمبنية حديثا على مساحة 150 ألف متر مُربع قُرب بحيرة يانتشي.

لا يبدو للوهلة الأولى شيء مثير للاهتمام في تلك البلدة الصغيرة سوى السلاسل الجبلية الخلابة المُمتدة شمالا، والبحيرة البديعة التي يقصدها السائحون لا سيما أنها على مقربة من مسار سور الصين العظيم. بيد أن علماء الفيزياء يتطلعون إلى تلك البُقعة لأسباب لا تمُت بصِلة لما يقصده السياح، إذ تتركز عيونهم على تلك المباني غير اللافتة التي تحتضن ما يُعرف بمدينة هوايرو للعلوم، وبالتحديد مباني “المنشأة التكاملية لاستخدام الحالات الاستثنائية للمادة” المعروفة اختصارا بـ”إس إي سي يو إف”.

هُنا ضخَّت أكاديمية العلوم الصينية ومعهد الفيزياء التابع لها ما يكافئ 250 مليون دولار من أجل البحث عن الموصِّلات الفائقة التي توصِّل الكهرباء دون مقاومة، وذلك من أجل الوصول إلى آفاق جديدة في مجال الحوسبة الكمِّية، والتحكُّم في خصائص المادة، والتصوير الحيّْ لاهتزازات الشبكات البلورية للمواد الصلبة، وهي كلها بحوث لا يُمكن إجراؤها إلا في أوضاع معملية خاصة.

وبعد خمس سنوات من العمل على بناء تلك المنشأة التي دخلت الخدمة بالكامل في سبتمبر/أيلول 2022، سرعان ما اتجهت الأضواء إليها من داخل وخارج الصين.

أهداف المنشاة

تهدف المنشأة، كما يشير اسمها، إلى خلق وضع تكامُلي بين حالات استثنائية متعددة للمادة في وقت واحد، مثل الحرارة المنخفضة جدا مع الضغط شديد الارتفاع، أو المجالات المغناطيسية فائقة القوة مع المجالات البصرية فائقة السرعة، ودراسة ما ينجم عنها من ظواهر لا تتسنَّى لنا رؤيتها حين تتوفر لدينا حالة استثنائية واحدة فقط. ولا تَقصِر أكاديمية العلوم الصينية البحوث على علمائها فحسب، بل إنها حريصة على استضافة فرق بحثية من شتى دول العالم، واستضافت بالفعل باحثين من جامعات أميركية وأوروبية منذ تشغيلها.

ووفقا للإمكانيات الضخمة في المنشأة، يُمكن إجراء تجارب عند درجة حرارة تساوي ميلي درجة واحدة (1% من الدرجة) فوق الصفر المُطلق الذي يساوي 273 درجة تحت الصفر، كما يُمكن إجراء تجارب عند ضغط مرتفع جدًا يبلغ 300 غيغا باسكال، أي نحو 300 ألف من مثل الضغط الجوي الذي نشعر به يوميا عند سطح الأرض، علاوة على توليد مجالات مغناطيسية فائقة الشدة تصل شدتها إلى 30 تِسلا، أي 600 ألف من مثل المجال المغناطيسي للأرض.

وفي حوار له مع مجلة نيتشر، يقول العالم المتخصص في فيزياء المواد المُكثَّفة “علي بانغورا” والباحث بمعمل المجالات المغناطيسية العالية الوطني بولاية فلوريدا الأميركية (إن إتش إم إف إل): إن المنشأة ستمنح الصين تفوُّقا على الدول الأخرى في السعي لإيجاد مُوَصِّليّة فائقة عند درجات الحرارة العادية المعروفة بدرجة حرارة الغُرفة في الفيزياء، وإن تضافر جهود المحطات المختلفة في موقع واحد “يُعزِّز احتمالية الوصول لاكتشافات كُبرى” في المنشأة، على حد قوله.

Synergetic Extreme Condition User Facility المصدر: الأكاديمية الصينية للعلوم

مم تتكون المنشأة؟

وتتكوَّن المنشأة الضخمة من 22 محطة بحثية ومعملا، حيث تعكف كل منها على توفير ظروف معينة تُختبَر فيها المواد في ظل حالات استثائية مُحدَّدة. وإحدى تلك المحطات هي محطة خلية السندان الألماسية، وخلية السندان الألماسية هي جهاز يستخدم ألماستيْن متقابلتيْن عن طريق وضع عيِّنة من المادة المطلوب اختبارها ودراستها بينهما، ثم يُزوَّد الضغط المبذول على المادة وتنويعه حتى يتسنَّى للعلماء دراسة خصائص المادة في ظل أوضاع استثنائية مختلفة أو أوضاع غير موجودة على سطح الأرض مثل الضغط في باطن الأرض. وبدأ استخدام الألماس في تلك الأجهزة منذ نهاية الخمسينيات لما لها من صلابة تتيح الوصول إلى مستويات ضغط أعلى بكثير من غيرها من المواد.

وهناك محطة بحثية أخرى هي محطة خلية السندان المُكعَّبة، التي يمكنها ضغط المواد من 6 اتجاهات، وهي نُسخة صغيرة من الجهاز الذي صنعه علماء يابانيون لأول مرة في تسعينيات القرن الماضي، ومن ثمَّ يُمكن التحكُّم بصورة أفضل في ظروف الجهاز الفيزيائية، وخفض درجة حرارته بشكل أكبر من نسخته اليابانية الأولى. علاوة على ذلك توجد محطة لتجارب الرنين المغناطيسي النووي التي تُطبِّق مجالات مغناطيسية عند قِيَم شِدَّة مُحدَّدة على عيِّنات من عناصر أو جزيئات كيميائية لدراسة خصائصها النووية والبلورية.

ثم توجد محطة تستخدم مجهر المسح النفقي، وهو نوع من الميكروسكوبات المتطورة يُستخدم لتصوير المواد على مستوى الذرة، ويستخدم إلكترونات المادة نفسها في ذلك، وكان تطويره في مطلع الثمانينيات أوصل مخترعيه سريعا إلى جائزة نوبل عام 1986. ويعتمد مجهر المسح النفقي على ظاهرة العبور النفقي الكمِّي للإلكترونات، فيمسح سطح المادة المطلوب دراستها ويقيس التيار الناجم عن العبور النفقي لإلكترونات المادة الموضوعة تحت المجهر، ومن هُنا جاءت تسميته.

وخُصِّصَت أكثر من محطة في المنشأة لدراسة الحالات الكمية غير المعتادة للمواد، وهي دراسةٌ عادةً ما تحتاج إلى درجة حرارة منخفضة جدا تكاد تصل إلى الصفر المُطلق، إذ إن درجات الحرارة الأعلى تؤدي إلى بدء تذبذب ذرات المادة، وهو ما يُحدِث ما يُسميه العلماء الضوضاء الحرارية التي تُصعِّب رصد الحالات الكمية، وهي حالات لا تدوم طويلا في الظروف العادية، ومن ثمَّ تُشكِّل دراستها تحديا للعلماء، إذ يحاولون الإبقاء عليها لأطول فترة مُمكِنة. هذا وتساهم تلك الدراسات في إحداث طفرات جديدة في مجال الحوسبة الكمية.

تقبع داخل المنشأة الصينية أيضا محطات عِدة لتجارب الفيمتوثانية والأتّوثانية. والفيمتوثانية هي واحد على مليون مليار من الثانية الواحدة، والأتّوثانية هي واحد على مليار مليار من الثانية. وتَستخدِم تلك التقنية -التي ساهم في تطويرها العالم المصري الدكتور أحمد زويل– نبضات أشعة الليزر لتصوير ديناميات الجزيئات التي تتغير كل فيمتوثانية أو أتّوثانية واحدة، غير أن التصوير بتلك السرعة تعجز عنه تقنيات التصوير الإلكتروني العادية، ومن ثمَّ لطالما لجأ العُلماء إلى نبضات الليزر المُكوَّنة من الفوتونات (جزيئات الضوء). وتجدر الإشارة إلى أن ثلاثة من أهم روَّاد فيزياء الأتّوثانية حصلوا على جائزة نوبل في الفيزياء العام الماضي.

لقد أثمرت البحوث التي بدأت في المنشأة الجديدة عددا من البحوث الهامة بالفعل، وتوصَّلت إلى أشكال جديدة من المواد ذات الموصِّلية الفائقة. وفي حوار مع دورية مراجعات العلوم الوطنية (إن إس آر) التي تنشرها أكاديمية العلوم الصينية، قال مدير معهد الفيزياء الصيني “جونغ فانغ”: “أتمنَّى أن يعمل معهد الفيزياء الصيني لبناء المزيد من منشآت البحوث الكبرى في الصين المحورية في مجال الفيزياء، والضرورية كي يبقى المعهد صاحب السبق في المستقبل”.

شاركها.
Exit mobile version