بينما يُنظر للبحث العلمي على أنه القاطرة التي تدفع الدول نحو التقدم، فإنه في عالمنا العربي أصبح معطّلا، وينتظر منذ زمن بعيد قاطرة تقطره إلى مراكز الإصلاح والصيانة، مثل تلك التي قَطر بها المطربُ المصري الشهير السيارة المتواضعة التي يمتلكها شقيقه العالم.

لم تكن مفاجأة للجميع أن أوضاع الباحثين الذين ننتظر منهم قيادة قاطرة البحث العلمي ليست في أفضل حالاتها، ولكنّ حديث المطرب الشهير أحمد سعد -بنبرة اختلف الجمهور في تفسير مغزاها إن كانت سخرية أم مزاحا- عن أوضاع شقيقه أستاذ الفيزياء الحيوية والحاصل على جائزة الدولة التقديرية الدكتور سامح سعد؛ نكأ دون قصد جراح البحث العلمي، ليدفعنا إلى طرح تساؤل لم يسبق طرحه من قبل: “هل ظَلمت الحكومات العربية الباحثين بعدم منحهم التقدير الكافي، أم أن الباحثين ظلموا أنفسهم بعدم تقديم ما يعود بالنفع على دولهم ويحسّن من أوضاعهم المادية؟”.

بيج تايم بودكاست | أحمد سعد يتحدث عن شقيقه العالِم سامح وعمرو أديب يشاغبه

وكما هو متوقع، ركز التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي مع ما قاله المطرب الشهير -سواء من الجمهور العام أو من مجتمع البحث العلمي- على اتهام الحكومات العربية بظلم الباحثين، وعدم الاعتناء بهم أو منحهم التقدير المناسب، وهي تعليقات خلت -في رأي خبراء استطلعت “الجزيرة نت” آراءهم- من محاولات تقديم تشخيص حقيقي للمشكلة حتى يوصف العلاج المناسب لها.

ويقول مدير ومؤسس مركز الفوتونيات والمواد الذكية بمدينة زويل والرئيس العام للمعاهد البحثية بالمدينة صلاح عبية: “إذا كنا دائما ما نطرح النموذج الغربي مثالا إيجابيا لأوضاع الباحثين المادية، فيجب أن نعرف أن مسؤولية الحكومات عن تلك الأوضاع غير مباشرة، فهي في النموذج الغربي تضع اللوائح والقوانين التي تسهل عمل الباحث، وتخلق له الرابط مع مجتمع الصناعة، ولكن إذا لم يكن الباحث لديه استعداد للعمل والبحث عن الجديد باستمرار، فلن يختلف حاله كثيرا عن أوضاع باحثينا العرب”.

ويرى عبية أننا “عندما نتحدث عن أوضاع البحث العلمي يحزنني أن تكون التعليقات تدور في فلك النظر إلى الدولة على أنها ولي الأمر الذي يتعين عليه إخراج النفقة كل شهر”.

الرحلة من البحث إلى التطبيق

وكما أن النموذج المثالي لرب الأسرة هو ذلك الذي يضع القواعد التي يسير عليها أبناؤه ويترك لهم الحرية مع المراقبة المنضبطة للالتزام بالقواعد، فإن هذا ما يحدث في مناخ البحث العلمي الغربي، ويكون من نتيجته زيادة موارد الجامعات المادية، وزيادة موارد باحثيها، وفقا لعبية.

ويأخذنا عبية في رحلة تحوّل الأبحاث لمنتجات صناعية، ليكشف كيف تسير الأمور بسلاسة ويسر يجد معها الباحث من الوقت ما يعينه على الإنجاز، وهي حالة لا تتحقق في كثير من دولنا العربية.

يقول عبية الذي عمل لسنوات طويلة في بريطانيا قبل أن يحط رحاله في مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا مشاركا في مشروع تأسيسها: “ليس عليك للحصول على تمويل من المجالس البحثية لبحث تريد تنفيذه، سوى أن تكتب أطروحة من صفحة واحدة فقط توضح فيها أهمية ما تنوي تنفيذه والتطبيقات التي يمكن أن تبنى عليه، ليأتيك بعد فترة قصيرة القرار بشأن تمويل المشروع البحثي”.

ويوضح أنه “في حال الموافقة، يُخصص المبلغ عبر إدارة البحوث ويُسحب منه وفقا لاحتياجاتك البحثية إلى أن تنتهي من مشروعك البحثي، ليقوم مكتب تسويق الأبحاث في الجامعة بالعمل على تسويقه عند الشركات التي قد تكون مهتمة به، وقد تُفضي تلك المرحلة إلى تأسيس شركة مع الجامعة لتحويل مخرجات المشروع البحثي إلى منتج تطبيقي”.

لكنه يقارن ذلك بما يحدث في دولنا العربية فيقول: “بينما تسير الأمور بهذه السلاسة في الغرب، فإن الباحث في بعض الدول العربية قد يصل به الحال إلى الندم على اليوم الذي فكر فيه أن يحصل على تمويل لبحثه، إذ يُستهلك في أمور مالية وإدارية وفنية، فيتعين عليه مثلا كتابة تقرير دوري عما أنجزه في البحث، ويُقيّد بإجراءات غريبة، مثل عدم نشر أي بحث علمي عما أُنجز في المشروع البحثي الذي يمولونه حتى يحصل على موافقة، وإن أثمر مشروعه البحثي عن فكرة جديدة ويريد أن يحميها ببراءة اختراع، فلا يُقدم الدعم الكافي لذلك ويضطر للإنفاق من أمواله الخاصة على ذلك”.

وتؤدي هذه الإجراءات البيروقراطية غير المشجعة -بحسب عبية- “إلى الفتور، وتُحوِّل الباحث العربي إلى موظف كل ما يهمه هو إنتاج أبحاث، حتى ولو كانت بجودة أقل وليس لها أي بعد تطبيقي ولن تعود بالنفع على مجتمعه، حتى يحصل على الترقية التي تضمن له زيادة في راتب لم يعد يكفيه”.

وحتى يتغير الحال إلى الأفضل بما يعود بشكل إيجابي على مناخ البحث العلمي والباحثين، يرى عبية أن قاطرة الإصلاح يجب أن تنطلق أولا من محطة “اختيار القادة العلميين”، ويقول: “نحن بحاجة إلى قادة يديرون المنظومة بفكر يقطر البحث العلمي إلى الأمام، والقضية ليست صعبة كما يتخيل البعض، فإذا عُدلت القوانين الحاكمة للمنظومة ووُضعت إجراءات لمتابعة تنفيذ هذه القوانين بشكل غير معرقل للآداء، فقد نحصل على مناخ بحثي أفضل يصب في صالح الباحث ماديا، ويخفف من العبء الملقى على الحكومات”.

وحتى يحدث ذلك، ليس مطلوبا من الباحث أن يستسلم للحالة السائدة التي تدفعه دفعا للكسل، ويضيف أنه “يجب على الباحث المحافظة دوما -رغم كل هذه المعوقات- على الحد الأدنى من جودة المنتج البحثي، حتى يكون لدينا قاعدة يمكن البناء عليها عندما تتوفر الظروف الملائمة للتطوير”.

لغة الأرقام تتحدث

ما تحدث عنه الدكتور صلاح عبية بشكل عام حاولت دراسة جزائرية توثيقه بلغة الأرقام، وأشارت تلك الدراسة التي أعدها الباحث من جامعة حسيبة بن بوعلي بالجزائر علي سايح جبور ونشرتها دورية ” الشامل للعلوم التربوية والاجتماعية” بجامعة الشهيد حمه لخضر بالوادي (إحدى جامعات الجزائر)، إلى أن ما سُمي بـ”الفتور البحثي” سببه الرئيسي هو أن “الأعباء الوظيفية للبحث العلمي” ليست في سلم أولويات الجامعات العربية، إذ إن المهمة الأساسية للأستاذ الجامعي وفق اللوائح والقوانين هي التدريس وليس البحث العلمي.

ويوضح جبور في دراسته الفارق بين الغرب والدول العربية فيقول: “في الغرب تمثل الأعباء الوظيفية للبحث العلمي نسبة 33%، بينما في عالمنا العربي لا تزيد عن 5%، إذ يُستهلك أغلب وقت الأستاذ الجامعي في التدريس”.

ولأنه لا يُنظر بعين الأهمية والاحترام لمهمة الأستاذ الجامعي البحثية، فإن الميزانيات المخصصة للبحث العلمي تذهب في أغلبها لبند الرواتب الشهرية، ولا يتبقى إلا النزر القليل ليوجه إلى البحث العلمي، وهو ما توضحه أرقام أخرى أشارت إليها الدراسة، حيث كشفت بشكل واضح أن “تمويل البحث العلمي في العالم العربي من أكثر المستويات تدنيا عالميا”.

ووفق ما جاء في الدراسة فإن “حصة المواطن العربي من الإنفاق على البحث العلمي تبلغ 3 دولارات فقط، مقابل 409 دولارات في ألمانيا، و601 دولار في اليابان، 681 دولارا في أميركا”.

استهسال الاستيراد

ويتفق عالم الفيزياء النووية والمستشار العلمي بشركة “هاليبرتون” علي عبده مع ما ذهب إليه عبية ومع الدراسة الجزائرية، لكنه حاول البحث عن الأسباب التي لا تجعل من البحث العلمي مهمة أساسية في الجامعات، ومن ثم لا يُخصص له التمويل الكافي، وذهب إلى أن أحد الأسباب الرئيسية في تقديره تعود إلى “استسهال الاستيراد”.

ويقول إنه “مع قيام الصين بتنفيذ الهندسة العكسية لكل شيء، باتت الدول تفضل استيراد الحلول الجاهزة لأي مشكلة صناعية من الصين بدلا من أن تنفق على البحث العلمي لتوفير الحل محليا”.

ومع ما يبدو من أن الحل المستورد قد يكون مجديا من الناحية الاقتصادية، فإنه يدمر البحث العلمي ويعطل قدراته، ويضع الدول في خطر تعطل سلاسل الإمداد والتوريد مع حدوث أي أزمة عالمية، ووقتها ستدرك الدول أهمية امتلاكها للحلول المحلية، كما ذهب عبده.

ويستحضر المستشار العلمي بشركة “هاليبرتون” التوجه الأميركي الحالي لدعم صناعة المعالِجات الدقيقة (الميكروبروسيسور)، وهي رقائق الحاسوب القادرة على أداء المهام الحسابية والرياضية المعقدة، لبيان أهمية الامتلاك المحلي للتكنولوجيا.

وتخشى الولايات المتحدة من حدوث أزمة في تايوان معقل تصنيع “الميكروبروسيسور”، بما قد يتسبب في تأثر قطاعات عديدة من الصناعات التي تعتمد عليها، لذلك خصصت 300 مليار دولار لدعم الأبحاث الخاصة بتصنيعها محليا.

ويقول: “بمنطق الجدوى الاقتصادية، فقد أنفقت الحكومة مبلغا ضخما، لكن على المدى البعيد ستُجنى الفوائد الاقتصادية من هذا الدعم”.

ويخلص عبده من ذلك إلى أن الحكومات العربية ظلمت البحث العلمي بعدم تقديم الدعم المادي الكافي له، لكنه يشدد في الوقت نفسه على رفضه حصر هذا الدعم في بند “الرواتب”، ويضيف: “نريد تمويلا لبحث علمي تعود جدواه المادية على الباحث والمجتمع”.

البداية من التشريع

ولا تملك كثير من الحكومات العربية التي تعاني من الأزمات المادية ما يتيح لها الإنفاق بسخاء على تمويل البحث العلمي، لذلك فإن الحل في رأي الباحث بجامعة ألتو بفنلندا وصاحب فكرة مبادرة “العيادة التعليمية” رمزي عبد العزيز، هو خلق رابط بين البحث العلمي والصناعة، بما يتيح للباحث العلمي تقديم خدمات للصناعة تعود بالنفع المادي عليه وعلى جامعته.

ويستشهد عبد العزيز بتجربته الشخصية في التواصل مع الصناعة من خلال عمله بجامعة آلتو “حيث يتاح لي بعد أوقات العمل الرسمية الاستفادة من إمكانيات الجامعة لتقديم حلول للصناعة نظير مقابل مادي يتحصل عليه من الصناعة، ورسوم تسددها الصناعة للجامعة”.

وإلى أن تجد الصناعة في العالم العربي نفسها مجبرة على اللجوء لمراكز الأبحاث الوطنية كما تفعل في فنلندا بدلا من استيراد الحلول من الخارج، يؤكد عبد العزيز أهمية الحاجة إلى تشريعات تضمن للباحث حقوقه المادية عند التعاون مع القطاع الخاص.

ويقول: “إذا فعلنا ذلك وأعطينا ضمانات تشريعية للباحثين العرب، سيتمكنون بأقل الإمكانيات من إنجاز بحث علمي جيد يجبر الصناعة على اللجوء للحل المحلي بدلا من استيراده من الخارج، ولكن في ظل غياب هذه الضمانات لا يُنتج الباحث بحثا علميا جيدا، لأن دخله الشهري لا يكاد يصل إلى 200 دولار، ولا يوجد حافز مادي يدفعه لذلك”.

ويرى عبد العزيز أن معهد بحوث البترول المصري كان في مرحلة من المراحل نموذجا لما يجب أن يكون عليه التواصل بين البحث العلمي والصناعة، حيث استطاع إنتاج حلول محلية لمواد خام كانت تُستورد من الخارج، وعاد ذلك بالنفع ماديا على المعهد وباحثيه، وتطور الأمر إلى إنشاء وحدات إنتاجية ذات طابع خاص داخل المعهد، يقدم الباحثون من خلالها خدمات للصناعة.

ويتساءل: “ما المشكلة في تكرار تلك التجربة بعد دراستها جيدا؟”، والبداية ستكون في رأيه بإصدار تشريعات تشجع التعاون بين الصناعة والبحث العلمي وتُطمئِن الباحث على عائده المادي من هذا التعاون.

ترتيب البيت من الداخل

ولا يختلف مدرس علم المناعة وتطوير اللقاحات في معهد “إدوارد جينر” بجامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة أحمد سالمان، مع ما ذهب إليه عبد العزيز من أن إصدار تشريعات تشجع التعاون بين البحث العلمي والصناعة قد يكون حلا ناجعا، لكنه يرى أنه يجب قبل الإقدام على ذلك ترتيب البيت من الداخل.

ويقول إنه “إذا كانت مؤسسة بحثية مثل معهد بحوث البترول استطاعت في مرحلة ما كتابة قصة نجاح، فليس ذلك مضمونا تحقيقه في كافة المؤسسات البحثية التي قد يحتاج عملها لأجهزة متطورة لا يمكن بدونها إنجاز بحث علمي متطور ينافس الحلول المستوردة من الخارج”.

ويوضح أنه “إذا أردنا أن نبدأ فلا بد من توفير البنية التحتية اللازمة للبحث العلمي من تجهيز المعامل بأحدث الأجهزة، وإتاحة استخدام هذه الأجهزة بدون عراقيل، وتوفير المواد الخام اللازمة لتشغيلها، فالعقول العربية متى توفرت لها الإمكانيات تستطيع أن تبدع بحثا علميا ينافس ما ينجزه الباحثون بأعرق الجامعات”.

وعلى ذلك، فإن ما خلص له الخبراء، هو أننا لا نستطيع القول إن الباحثين ظلموا أنفسهم بعدم تقديم منتج جيد، قبل أن نطالب الحكومات بتوفير البيئة التي تسمح بذلك، عن طريق لوائح تسهل الحصول على التمويل وقوانين تشجع الربط بين البحث العلمي والصناعة، وقبل ذلك توفير البنية التحتية من معامل وأجهزة ومواد خام.

شاركها.
Exit mobile version