تخيل أنك تعود إلى المنزل في فترة ما بعد الظهيرة الحارة، لتجد جهاز التحكم عن بعد في مكيف الهواء مفقودًا، أو أسوأ من ذلك، وهو أن مكيف الهواء لا يعمل على الإطلاق.

في الكثير من مناطق العالم، قد تكون الحياة بدون تكييف الهواء غير مريحة أو خطيرة تمامًا، ولكن كيف كانت الحياة في الواقع بالنسبة لأسلافنا قبل الحداثة وكل التغييرات والتطورات التي طرأت على أسلوب حياتهم؟ وكيف تعامل هؤلاء مع مثل هذه الحرارة المفرطة دون الاستعانة بمكيفات الهواء أو حتى المراوح الكهربائية؟

 

ابتكارات من البيئة المحيطة

قبل عصر الكهرباء، وبالنسبة لشعوب كانت وسائلها قليلة وبدائية، كانت الاختراعات والابتكارات المعمارية والشخصية الصديقة للبيئة والإنسان على حد سواء في أفضل حالاتها، فقد استخدمت بذكاء ميكانيكا الموائع والديناميكا الحرارية للحفاظ على البرودة في المناخات الحارة، ليس فقط في القصور المهيبة، ولكن في المنازل العادية أيضًا.

ويعدد الدكتور سائر بصمه جي الباحث السوري في تاريخ العلوم العربية أشكال التهوية الطبيعية التي عرفها الإنسان في حديثه مع “الجزيرة نت”، ولعل أبسطها طريقة تناوب التدفئة والتبريد من خلال فتح النوافذ والأبواب لإدخال الهواء البارد إلى غرفة معينة في فصل الصيف، مما يسبب خفض درجة الحرارة، وكذلك يؤدي إدخال الهواء الحار إلى رفع درجة الحرارة فيها. ويضيف بصمه جي أن الناس استخدموا عدة وسائل أخرى منها إحضار الجليد من الأماكن الجبلية المرتفعة، وبناء المنازل عبر الصخور أو تحت الأرض أو بناؤها من الخشب والطين المعروفين بكونهما مادتين طبيعيتين عازلتين للحرارة.

كما لجأ القدماء إلى تقنيات التبريد الذاتية لخفض حرارة الجسم بصورة أفضل، مثل الاستحمام بالماء البارد والسباحة وتبليل الثياب بالماء والتلويح باليد على الوجه أو باستخدام مروحة يدوية وتبريد مناطق النبض مثل المعصمين وجوانب الرقبة باستخدام الماء أو حتى قطعة قماش مبللة.

وفي كتابه “التبريد في التراث العلمي العربي”، يستعرض بصمه جي في رحلة عبر الزمن، تطور تقنيات التبريد وأساليبه التي وفرت تبريدًا فعالًا وراحة قصوى للأجساد، فقد استخدم قدماء المصريين والإغريق والرومان الحصائر الرطبة لتبريد الهواء الداخلي، حيث قاموا بتعليقها فوق فتحات أبواب منازلهم.

وكان الناس في العراق يفعلون ذلك أيضًا، حيث يعلقون حصرًا مبللة تتدلى على فتحات النوافذ من الخارج من أجل تبريد الهواء بفعل التبخر، إذ تؤدي ظاهرة التبريد التي تنجم عن تبخير المياه إلى مضاعفة برودة الهواء. وكان بعضهم يستبدل بالحصر كميات من الفحم النباتي لامتصاص الروائح الكريهة من الهواء.

وعندما نلاحظ ملابس الشعوب العربية التقليدية، نجد أنه عبر التاريخ، وفي شبه الجزيرة العربية، لجأ القدماء إلى توظيف الملابس، وخاصة تلك المصنوعة من مواد طبيعية مثل القطن أو الصوف، في مكافحة الحرارة والشمس.

انفوغراف أشكال التهوية الطبيعية التي عرفها الإنسان قديما الجزيرة

وتشرح الكاتبة السورية نادية سعيد الغزي، في كتابها “الطرق الشرقية القديمة للتخلص من الحر”، كيف لجأ الناس في الماضي إلى الألياف النباتية الطبيعية، بما في ذلك الجوت والكتان والقنب والخيش، لتخفيف أثر حرارة الصيف الشديدة في المنطقة العربية، وتدلل على ذلك بما حدث عام 1760 قبل الميلاد، عندما استُخدم الكتان المصبوغ بالألوان المختلفة في صنع ملابس الملكة “شيبتو”، زوجة زميري ليم آخر ملوك مملكة ماري الواقعة على الفرات الأوسط بشرق سوريا (حلب حاليًّا).

ومن المعروف أن العرب كانوا يرتدون أربع طبقات على الأقل من الملابس خلال ذروة الصيف، تغطي أجسادهم من الرسغ إلى الكاحل، ويشمل ذلك الرجال والنساء والأطفال. وبهذه الطريقة حمَوْا أجسادهم من أشعة الشمس الحارة، ومن شدّة الجفاف.

كما أضاف العرب والمسلمون قديمًا بعض قطع القماش إلى الملابس لوقايتهم من الحر أو البرد، مثل العمامة، وهي أحد أغطية الرأس الشهيرة على مدى قرون طويلة، وكانوا يصبغونها بالحمرة أو الصفرة أو السواد، وغلبت على شكلها طريقة التكوير واللفّ، ووصفها التابعي الشهير أبو الأسود الدؤلي الملقب “ملك النحو” بأنها “جُنّة في الحرب، ومكنة من الحر، ومِدفأة من القر، ووقار في الندى، وواقية من الأحداث، وزيادة في القامة، وهي عادة من عادات العرب”.

 

ذكاء معماري

أطلق العرب على أشد حرارة في الصيف اسم “القيظ”، وقسموها إلى ثلاثة أنواع: حرارة بسموم (مربعانية القيظ)، وحرارة بجفاف (ذبحة القيظ)، وحرارة برطوبة (جمرة القيظ)، وهذه الثلاثة محصورة بين أشهر يونيو/حزيران ويوليو/تموز وأغسطس/آب، وهي الأشهر الأشد حرارة في معظم الدول العربية.

وعرفت الحضارة العربية طرقًا كثيرة للتهوية والتكييف، ودمجت هذه العناصر في البنية السكنية بهدف توفير الراحة الحرارية للسكان كل حسب قدرته وإمكانياته.

وكانت “ألواح الجالي” -التي حلت محل النوافذ- أبرز الطرق في مواجهة الحر الشديد، وهي فن إسلامي يُضفي تصميمه المعقد جاذبية جمالية، واشتهر من المغرب إلى الهند في بداية القرن الثالث عشر، وأسهمت هذه التقنية الفيزيائية في تعديل الضوء ومنع دخول الشمس والمطر وتبريد الهواء عند دخوله عبر ثقوبها الزخرفية المصممة على طريقة “أنابيب فنتوري”، حيث تعمل على تضييق منافذ دخول الهواء، لإبطاء تدفقه؛ وبذلك تقلّ حرارته، ويصل إلى المساحة الداخلية للمنزل بدرجة حرارة مريحة.

إليك تجربة بسيطة جدًّا لتأثير ألواح الجالي. افتح فمك وانفخ على ظهر يدك. الآن، افعل نفس الشيء مع تقارب شفتيك، كما لو كنت ستصفر، هنا ستلاحظ فرقًا في درجة حرارة الهواء الذي تنفخه؛ فالشفتان المطبقتان تنفخان هواءً أكثر برودة.

ونظرًا إلى التصاميم المعقدة للجالي واحتوائه على مواد غالية مثل الحجر والرخام، فإنه كان يُستخدم في المقام الأول لدى الأسر الأكثر ثراءً. وتوجد أمثلة شائعة للجالي في الهند مثل جوهرة فن العمارة الإسلامية تاج محل وهاوا محل (قصر الرياح).

وفي حين كانت ألواح الجالي المعقدة مقتصرة على النخبة، كانت الأسر العادية تستخدم الحصر المصنوعة من ألياف النباتات مثل القصب والخوص وغيرها، وكانت تفترشها بعد أن تُبلَّل بالماء لتخفيف درجة الحرارة على الأرض، ولم تكن أفضل غطاء للأرضيات في وقت الصيف فحسب، بل كان القدماء يقطرون الماء عليها للوصول إلى تبريد الهواء من خلال تبخر المياه.

وعند تتبع تطور المدن والقرى في شبه الجزيرة العربية، يتضح أن النسيج الحضري كان محكمًا، وكانت المساحات المفتوحة نادرة، ولم تكن هناك رغبة أو حاجة إلى توسيع أي مساحة أو طريق، وكانت إستراتيجية المدينة تضمن تعظيم عنصر أساسي ضروري للراحة النسبية، وهو الظل.

استلزمت كل الجهود الإبداعية إيجاد أكبر قدر ممكن من الظل في الأماكن العامة في المدن، فقد كانت أشعة الشمس المباشرة تعني تجربة أكثر قسوة، وكان لا بد من تجنبها بأي ثمن. وعند الانتقال من نطاق المدينة إلى مبنى سواء كان عامًّا أو خاصًّا، فإن العناصر المعمارية ستكشف أسرارها. كان لكل من الجدران والأسقف سُمك هائل، يصل في بعض الأحيان إلى 80 سنتيمترًا.

وعلى الرغم من أن هذه العناصر تبدو كأنها مصنوعة من الطوب واللّبِن فقط، فإن تركيبها كان أكثر تعقيدًا، حيث تضمنت القش والحجر وفي بعض المدن البحرية، المرجان. وجميعها مواد عازلة للحرارة بكفاءة عالية، إذ يؤخّر هذا السُّمك الهائل انتقال الحرارة من الخارج إلى المساحات المأهولة.

على العكس من ذلك، تتمتع الجدران الأكثر سمكًا في المنشآت مثل الحصون والقلاع بقصور حراري أكبر. بمعنى آخر، يمكنها امتصاص المزيد من الحرارة التي تشعها الأجسام والأشياء المحصورة داخلها، وهو ما يُشار إليه غالبًا بـ”التبريد الإشعاعي”، ويعني إخراج الحرارة من الجسم إلى محيطه عن طريق الإشعاع.

تمتص الجدران الحجرية السميكة الحرارة في مثل هذه المنشآت وتطلقها ببطء؛ مما يؤدي إلى ظروف غير مريحة في الليل. وبالتالي، غالبًا ما كانت جدران وأرضيات القصور القديمة والمنشآت الملكية والإستراتيجية تتميز بقنوات مائية مخفية ومكشوفة لتحسين تبديد الحرارة في الجدران السميكة. يسحب الماء المتدفق الحرارة من الجدران؛ مما يساعد على الحفاظ على برودتها.

وهناك جانب آخر، وهو استخدام الأخشاب في الأسقف، لما يتوفر فيها من مرونة على مقاومة الهزات الأرضية، وتكتمل المهمة عبر عزل الحرارة عن الأسقف والجدران بمواد عضوية تلائم البيئة المحيطة بالمكان مثل الطين، وتحفظ برودة المنزل صيفًا ودِفْأَه شتاءً.

كما تميزت العمارة العربية والإسلامية في معظم الدول العربية بوجود أجزاء خشبية بارزة في البناء الأساسي، تسمى المشربيات أو الرواشين، التي استمر استخدامها منذ العصر العباسي حتى أوائل القرن العشرين، وما زالت الأحياء الشعبية القديمة في مصر شاهدة على وجودها، وكذلك في مدينة جدة القديمة وبيوت مكة المكرمة القديمة والمدينة المنورة في السعودية.

ويذكر الدكتور ثروت متولي خليل، الأستاذ بكلية الفنون التطبيقية في جامعة حلوان المصرية، في دراسة بعنوان “المشربيات والرواشين وأثرهما على الفراغ الداخلي” أنه فضلًا عما تمثله هذه المشربيات من قيمة فنية، فإنها تمثل قيمة وظيفية  تتخطى مهمة الحفاظ على خصوصية المقيمين في المنزل، إلى التحكم في حركة الهواء من الداخل إلى الخارج بكل سلاسة ويسر، وأثبت  استخدامها فاعلية كبيرة في الوصول إلى بيئة داخلية مريحة رغم شدة الحرارة في الخارج.

إضافة إلى ذلك، ظهرت الآبار المُدَرَّجة في المناطق القاحلة لاستخراج وتخزين المياه على مدار العام، وهي معروفة بهندستها المعمارية الغريبة إذ تتألف من سلالم معكوسة تنزل إلى بئر على ارتفاع عدة طوابق. كان لهذه الآبار مناخها المحلي الخاص، وكان الجزء السفلي منها بالقرب من خزان المياه أكثر برودة بعدة درجات من السطح، كما يمنع تصميم هذه الآبار أي فقدان مفرط للمياه بسبب التبخر؛ لأنها تحمي الماء من أشعة الشمس الحارة.

وليس من المستغرب أن تصبح الآبار المتدرجة أماكن للتجمع الاجتماعي، فهي لا توفر الماء فحسب، بل توفر أيضًا الماء والراحة من الحرارة الشديدة في المناطق القاحلة وشبه القاحلة.

الملاقف.. نظام تبريد طبيعي

في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية بشكل خاص، كانت درجات الحرارة دائمًا شديدة خلال أشهر الصيف، ولكن ما تغير حقًّا هو قدرة المنطقة على التغلب على بيئة الصيف القاسية.

وبسبب عدم وجود مكيفات الهواء والمراوح في الماضي، كان المهندسون يضعون الاعتبارات المناخية نصب أعينهم عند تحديد موقع البناء وشكل تصميمه والمواد المستخدمة فيه. وثمة أدلة تشير إلى حدوث تطور في طريقة اقتناص الرياح وتوجيهها داخل المنازل بهدف تكييفها وتبريدها بشكل أفضل من الاعتماد على فتح النوافذ والأبواب.

وكانت الملاقف الهوائية أو أبراج الرياح أحد أهم هذه العناصر المميزة في المباني، وقد أولاها مهندسو البناء -قديمًا وحديثًا- اهتمامًا خاصًّا، وكان لها دور فعّال في تكييف وتهوية الأبنية، خصوصًا في المناطق الحارة.

ويعرف الملقف بأنه مهوى يقع في أعلى المبنى، له فتحات مقابلة لاتجاه هبوب الرياح، تقوم باقتناص الهواء المار فوق المبنى ودفعه إلى الداخل، وعند ذلك يتدفق الهواء البارد تحت الهواء الدافئ، ثم يؤدي الضغط إلى رفع الهواء الدافئ إلى الأعلى ليخرج من برج آخر في الجهة المقابلة.

ويقول المؤرخ السوري الراحل خير الدين الأسدي في كتابه “موسوعة حلب المقارنة” إن ملقف الهواء هو مسرب هوائي موجه خارج البيت إلى الغرب، يُحدث جريانًا داخل الغرفة لتلطيف حرارة الصيف، وبذلك يغني الملقف عن الحاجة إلى النوافذ العادية لتوفير التهوية وحركة الهواء الضروريتين داخل المبنى.

تعددت تسميات هذا العنصر المعماري، فقد كان يسمى “البادنج” و”البادهنج”، وأطلق عليه كذلك “البادگیر” و”الكشتيل” و”البارجيل”، لكن يميز شيخ المعماريين المهندس المصري حسن فتحي بين الملقف والبادهنج، ففي حين أن الملقف له فتحة موجهة إلى داخل المبنى، فإن البادهنج له شكل برجي وأكثر من فتحة موجهة نحو المبنى لاقتناص الهواء من أي جهة.

شكل برج الرياح، ومدى ارتفاعه واتجاهه، وعدد الفتحات فيه، والأقسام الداخلية جميعها تكون مصممة لتحسين كفاءة البرج في اقتناص الهواء، ففي بعض الأحيان، يكون هذا البرج أحادي الاتجاه، وفي أحيان أخرى يكون مزدوج الاتجاه، وعلى الأكثر يكون به أربعة مداخل، واحد من كل اتجاه أساسي.

وتتعدد أشكال وأنواع الملاقف، ويتخذ الشائع منها شكل المكعب أو متوازي المستطيلات أو الأسطواني، لكن توجد أنواع أخرى مثل المخروطي والحائطي والمثلث، وهذا الأخير مجوف لا تزيد قاعدته وارتفاعه عن متر، وهو يشيّد فوق السطح العلوي للمنزل، ويُفتح من ناحية الشرق، ويرتبط في نهايته بمجرى داخلي موجه نحو السرداب، وقد ظهر هذا الشكل في بغداد وحلب قبل انتشار المنازل الإسمنتية.

وتوثق بعض المخطوطات العربية كيفية إجراء الحسابات الدقيقة لتحديد موقع الملقف من المبنى بحيث يواجه الرياح. من هذه المخطوطات رسالة صغيرة بعنوان “تحفة الأحباب في نصب البادهنج والمحراب” لمؤلفها عالم الفلك والرياضيات والفرائض أبي العباس شهاب الدين المجدي، الذي أراد من خلالها مساعدة البنائين على تحديد جهة الرياح أو سمت القبلة.

وانتشرت هذه التقنية بأشكال متعددة في مناطق واسعة من العالم الإسلامي، خصوصًا منطقة الخليج العربي والعراق ومصر، وهذا يدل على معرفة العرب والمسلمين بعملية ضبط التهوية، التي تعني في جوهرها التحكم في مستوى الرطوبة النسبية في الهواء الداخل، مما ينجم عنه شعور بالبرودة.

وكانت الملاقف منتشرة بين منازل الإمارات، فبعضها يحوي ملقفًا واحدًا، وهناك مساكن تحوي اثنين أو ثلاثة أو أربعة، في حين يقل عددها في مساكن قطر، ويوجد في أغلب مساكن البحرين ملاقف، ويعود السبب في ذلك إلى طبيعة المنطقة، خصوصًا في المناطق ذات الرطوبة العالية.

 

معادلة تكييف الهواء القديمة

لتحويل الملقف إلى مكيّف وتعديل درجة حرارة الهواء الداخل عبره، يوضح سائر بصمه جي في كتابه أن هناك طريقتين، إحداهما: تبريد الهواء في بعض الملاقف من خلال تمرير الهواء على مسطح مائي في الطابق السفلي (نافورة أو بركة مياه أو يتم دفعه عبر نفق رطب)، ويتم الحصول على تبريد فعال من خلال زيادة حجم الملقف وتعليق حُصر مبللة بالماء في داخله.

هذه الطريقة تسمى “التبريد بالتبخير”، إذ يدخل الهواء الساخن ثم يمر على القناة تحت الأرض، فتبرده المياه، ويكون في المنزل ما يسمى “السرداب”، وهو قبو واسع مفروش يتصف بجو جميل، ويجلس فيه أهل البيت في أيام حر الصيف الشديد.

وكان السرداب موجودًا في معظم البيوت في بغداد قبل انتشار المنازل الحجرية والخرسانية، إذْ يعد مستوى ما تحت الأرض مكانًا مثاليًّا للتوازن الحراري طول فترات السنة؛ مما جعل الناس يبنون غرفة سفلية تسمى “غرفة القبو”، تستعمل في الأوقات الشديدة الحرارة وتلك الشديدة البرودة من السنة. إضافة إلى ذلك يقوم القبو بدور المكيّف المركزي للمنزل كله، وذلك من خلال اقتناص الهواء من الملقف وإشباعه بالرطوبة ثم دفعه مرة أخرى عبر الأرضية ليرطب الغرف المحيطة.

في المناطق الساحلية، حيث الرطوبة العالية، لم تكن توضع في أسفل الملاقف أحواض ماء، أما المناطق الداخلية، البعيدة عن الساحل، فقد كانت تفعل ذلك بحيث ينزل الهواء إلى الأسفل ويتشبع بالرطوبة.

أما في الطريقة الأخرى، فقد كان الناس أحيانًا يضعون مكعبات الثلج أو ألواحًا من الجليد أو أقمشة مبللة عند فتحات استقبال الهواء في الملقف، وعندما يمر به الهواء يخرج منه نسيم بارد.

ولم يقتصر استخدام الملاقف الهوائية على المنازل وحسب، بل أمكن استخدامها في تهوية بعض المساجد والمستشفيات أيضًا في عدد من المناطق في العالم الإسلامي، ولا يزال بعض هذه الملاقف -وربما يكون من أقدمها- قائمًا في العاصمة المصرية القاهرة، مثل ملقف مسجد الصالح طلائع بن زريك، وملقف المدرسة الكاملية، وملقف خانقاه بيبرس الجاشنكير، وهناك ملقف آخر في مسجد نجم الدين بمحافظة المنيا بجنوب مصر.

كما يوجد ملقف بوسط سقف الرواق الأوسط لمسجد داعي الدار بمدينة فوة المصرية الملقبة “مدينة المساجد” التابعة لمحافظة كفر الشيخ، وهو بروز بسيط في السقف يعلوه سقف مائل له جنبان من الخشب، ومصوّب لاتجاه الشمال الغربي، الذي تهبّ منه الرياح.

وأُعيد إحياء الملاقف الهوائية حديثًا مع أعمال مخطّط المدن الكبير حسن فتحي في مصر، وكذلك في الكويت والسعودية، لكن بشكل أكثر تطوّرًا من سابقاتها، فقد استخدمت أبراج التهوية لتهوية قاعة الصلاة وصحن جامع الرحمانية بمدينة سكاكا في منطقة الجوف بشمال السعودية، حيث يسود مناخ حار شديد الجفاف صيفًا.

وبيَّنت القياسات التي أجريت داخل الجامع على مدى خمسة أشهر (من يونيو/حزيران إلى أكتوبر/تشرين الأول) أنه عندما كانت درجات الحرارة الخارجية في الساعة الثانية ظهرًا تتراوح بين 36 و39 درجة مئوية، كانت درجات الحرارة الداخلية في الوقت نفسه تتراوح بين 22 و24 درجة مئوية، أي أنه حدث انخفاض في درجات الحرارة متوسطه في هذا التوقيت 14.5 درجة مئوية.

وفي كتابه “عمارة الفقراء”، أكد حسن فتحي تأثير الملاقف في التغلب على ارتفاع درجات الحرارة، وجعلها عنصرًا أساسيًّا في نهجه المعماري، فقد استخدمها في تصميم المدارس التي بناها في قرية “القرنة” بمحافظة الأقصر في جنوب مصر حيث ترتفع درجة الحرارة، ونتج عن برج الرياح انخفاض الحرارة داخل الحجرات الدراسية بحوالي 10 درجات مئوية.

كما استخدم فتحي الملاقف أيضًا في بناء قرية باريس بمدينة الواحات الخارجة بمحافظة الوادي الجديد جنوبي غرب مصر، وجاءت الفكرة قبل أكثر من 60 عامًا، لتكون نموذجًا للهندسة المعمارية البيئية غير المكلفة، حيث استخدم في تصنيع طوب المباني الخامات المحلية من الطفلة والرمل الأصفر وقش الأرز والقمح لتوفير جوّ صحي لسكان تلك المنازل، ووضع تصميمات من شأنها التخفيف من درجات الحرارة داخل تلك المساكن، كما حرص على أن يكون موقعها فوق ربوة عالية بعيدًا عن المياه الجوفية.

كما وُضع الملقف الهوائي في مشروع قرية النيل للاحتفالات بالأقصر الذي يُعتبر مثالًا جيدًا لكيفية استعمال الملاقف الهوائية لتهوية المباني الكبيرة بهدف تغيير اتجاه حركة الهواء داخل المبنى ليصير عكس اتجاهه الخارجي، وقد كان ذلك ضروريًّا بحيث يأتي الهواء للمتفرجين من أمامهم وليس من خلفهم.

وفي أبحاث أجريت في جامعة أريزونا بالولايات المتحدة عام 1985، على نموذج للملاقف، وجد الباحثون أن اختلاف درجات الحرارة بين داخل المبنى وخارجه وصل إلى 10 درجات مئوية على الأقل في أشد فصول السنة حرارةً ورطوبة.

وفي بعض الأماكن الحارة، يمكن أن تخفض الملاقف درجة الحرارة الجو من 50 درجة مئوية خارج المنزل إلى أقل من 30 درجة مئوية داخله، وإذا كان هناك مسبح أو نافورة أو مسطح مائي في الطابق السفلي أو قناة ماء تحت الأرض، فإن قدرتها على التبريد ستزداد، وهذا يعني أنها توفر راحة حرارية للساكنين أو المقيمين في المبنى لا توفرها النوافذ.

والمميز أن هذه الملاقف لم تكن فقط لتبريد الهواء بل تفيد أيضًا في تنقية الهواء من الأتربة والحشرات، والتقليل من الغبار والرمال اللذين تحملهما عادةً الرياح في الأقاليم الحارة والجافة، وذلك من خلال وضع شبك من السلك الناعم أو الخشن على فتحات الملقف.

مبانٍ أكثر برودة

اليوم، أصبح هدير مكيف الهواء حولنا صامتًا، واعتاد الناس على ذلك لدرجة أنهم لا يفكرون فيه على الإطلاق باعتباره ظاهرة غير طبيعية، ومصدرًا للتلوث على العديد من الجبهات: البصرية والبيولوجية والبيئية.

ومع ارتفاع حرارة الكوكب، يستخدم المزيد من الناس مكيفات الهواء داخل منازلهم وأماكن عملهم للحفاظ على البرودة، لكن تشغيل هذه المكيفات يستهلك قدرًا كبيرًا من الطاقة. في الواقع، يمثل تبريد المباني 10% من استهلاكنا العالمي للكهرباء المنتجة في أغلب أنحاء العالم بالوقود الأحفوري.

وإضافة إلى ذلك، تعمل مكيفات الهواء على تبريد المساحات الداخلية عن طريق دفع الحرارة التي تمتصها المبردات، وهذا يعني أنها تجعل المناطق المحيطة المباشرة والأماكن المفتوحة أكثر سخونة أيضًا، وتزداد الحاجة إلى استخدام المكيفات لخفض الحرارة في الأماكن المغلقة، مما يعني انبعاثات تؤدي بدورها إلى تسريع ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي، وهكذا ندور في حلقة مفرغة.

لذلك يشتهر اليوم بمصطلح “الجزر الحرارية الحضرية”، وهو يعني أن المدن تكون أسخن نسبيًّا من المناطق المحيطة بها بفعل التدخل البشري الذي يتمثل في استخدام الخرسانة التي تمتص الحرارة وتحتفظ بها، وهناك أيضًا الكثير من الحرارة المهدرة من الأنشطة البشرية مثل المكيفات والسيارات والمصانع التي تزيد ارتفاع درجات الحرارة في تلك المناطق.

وفي العديد من البلدان التي تمر بطفرة في البناء، غالبًا ما تبدو المباني الجديدة أشبه بالصندوق الزجاجي، حيث يميل القائمون عليها إلى بنائها بزجاج من الأرض إلى السقف، وهذه مشكلة حقيقية لأن كلّ مبنى يُوضع فيه زجاج يتحول إلى صندوق ساخن.

ويقول المهندسون المعماريون إن هذا الشكل الجمالي شائع لأنه يُنظر إليه على أنه أنيق وحديث ويسمح بدخول الضوء الطبيعي، وإن تغييره يتطلب بناء لوائح أكثر صرامة حول كفاءة الطاقة، وتحولًا ثقافيًّا هائلًا لتطبيقها فعليًّا على الأرض.

قد يكون للهندسة الحضرية دور كبير في التخفيف من هذه الظاهرة السلبية وآثارها البيئية والاجتماعية الخطيرة من خلال مجموعة من الخطوات مثل إنشاء ممرات للرياح بهدف التهوية وزيادة المسطحات الخضراء المليئة بالأشجار الظليلة والنباتات الأخرى التي تكون بمثابة رئات تنفس في المدن، كما أن تقليل الحرارة المنبعثة من وسائل النقل يحدث فرقًا أيضًا. قد تبقى هناك حاجة إلى استخدام مكيفات الهواء في بعض الأحيان، ولكن بدرجة أقل بكثير.

ومع زيادة فواتير الطاقة، من الطبيعي أن يلجأ المصممون إلى البدائل المستدامة التي استخدمها أسلافنا ذات يوم؛ ولهذا السبب يعيد المهندسون اليوم تصميم المباني التي لا تعتمد على مكيفات الهواء الحديثة، تلك التكنولوجيا التي سمحت للمبتكرين في الهندسة المعمارية والتخطيط الحضري بالتخلي عن مسؤولياتهم في تصميم المباني.

للخروج من هذه الدائرة المفرغة، تقول المصممة المعمارية المصرية منال سيد حسن إنه من الممكن أن تساعدنا إعادة التفكير في بنيتنا واستخدام تقنيات تبريد أكثر كفاءة، وتطبيق تقنية الملاقف أو أبراج الرياح في البناء الحديث.

وتضيف في حديثها لـ “الجزيرة نت” أنه “يجب علينا إعادة تقديم هذه الاختراعات لتحسين الكفاءة والأداء، وتبني عمارتنا من دون بالتخلي عن حكمة الماضي، كما يتعين علينا إعادة النظر في تاريخنا وفهمه باستمرار، ولا يوجد سبب أفضل من تذكر وإعادة تطبيق اختراع أسلافنا عندما لم تكن لديهم الوسائل التي لدينا اليوم”.

ويمكن الاستدلال على ذلك ببعض المباني الحديثة التي تقوم بهذا بالفعل، مثل جامعة قطر، التي تستخدم أبراج الرياح للحفاظ على برودة مبانيها.

وهناك حلول أخرى -بعضها تقليدي وبعضها حديث- قد تؤدي دورها في إعادة التوازن البيئي لتلك الجزر قدر الإمكان، منها  تقليل المساحات الداكنة في الشوارع والأسطح الإسمنتية واستخدام الألوان الفاتحة في دهان المباني لتعكس الحرارة.

وربما لاحظت أن المنازل في المناطق الحضرية الحارة غالبًا ما تكون بيضاء، وتعيد بعض البلدان هذا النهج من خلال طلاء الأسطح والهياكل بطبقة بيضاء من الجير فيما يُعرف بـ”العزل الحراري”. يمكن أن يقلل هذا من درجات الحرارة الداخلية بمقدار 2 درجة مئوية إلى 5 درجات مئوية.

عند تصميم المباني الجديدة، يميل المهندسون المعماريون في التصميم المناخي الحيوي إلى الجمع بين مصادر مختلفة للإلهام لكنهم يُجمعون على أن الموقع هو كل شيء.

في هذا الصدد، تؤكد منار سيد حسن أنه يجب الانتباه إلى اتجاه الشمس والتأكد من عدم تعرض واجهاتك لأشعة الشمس المباشرة، ثم دراسة اتجاه الرياح بعناية، وهو أمر مهم لتصميم الفتحات التي تشجع التهوية المتبادلة.

وتتميز التقنيات الحديثة التي تستخدم التبريد الإشعاعي -المستخدم قديمًا- بأنابيب داخل الجدران والأرضيات تحمل الماء المبرد. وقد لوحظ أن هذا وحده يقلل من تكاليف التدفئة والتهوية وتكييف الهواء في المنشآت بنسبة تصل إلى 25% أو أكثر.

وقد انقرضت الآبار المدرّجة في الغالب، لكن المهندسين المعماريين والمصممين يسعون الآن إلى إحيائها لتكون حلولًا حديثة للتحكم في درجة الحرارة وتوفير الطاقة لتخزين المياه في ظل شبح المياه الذي يواجهه كثير من الدول بانتظام على مدار العقود القليلة الماضية.

ومن الوسائل القديمة الأخرى التي يمكن أن تساعد على درء الحرارة “التظليل الخارجي” الذي يحجب أشعة الشمس الحارة القادمة خلال فترة ما بعد الظهر، وهذا يقلل من وصول الحرارة إلى الأسطح الخارجية للمنزل (النوافذ والجدران الفارغة)، ويحافظ على الواجهة باردة في الأجواء الحارة، كما يمنع العزل الحرارة من الانتقال عبر السقف، على سبيل المثال.

في البداية، تم عمل هذا التظليل بالأشجار، ولكن مع تطور التقنيات، يمكن تحقيق التظليل من خلال لوح معتم يمر عبر المنزل (يُرى فوق النوافذ الحديثة)، وشرفات ممتدة، ومظلات خشبية مثقبة تسمى العريشة.

تظهر أمثلة على ذلك في العمارة المغولية التي تتميز بوجود الشرفات أو النوافذ المزخرفة المصنوعة من مجموعة متنوعة من المواد، مثل الخشب والحجر، وتسمى الجاروكا أو الجاروخا، وتتميز بتصميمات شبكية معقدة تُظهِر إتقان الحرفيين، وتوفر فصلًا للمساحة، مما يقلل درجة حرارة الغرف بالداخل.

هذه الطرق يمكن أن تقلل درجات الحرارة الداخلية بنحو 5 درجات مئوية كما يمكن لمراوح السقف أن تساعد على توزيع هذا الهواء البارد. ومن المثير للاهتمام أن حصائر القصب لا تزال تستخدم في زخرفة العديد من المنازل الحديثة.

ما زال هناك الكثير لنتعلمه ونطبقه من الطرق العربية القديمة، وخاصة كيفية تعاملهم مع تدفق الهواء والتبخر، حيث يمكن لإدخال التهوية من خلال فتح النوافذ الموجودة في الاتجاه المعاكس أن يحسن بشكل كبير جودة الهواء؛ مما يؤدي إلى موائل أكثر برودة وصحة.

شاركها.
Exit mobile version