يُعد القمح أحد أبرز المحاصيل لها دور جوهري في تطور البشرية على مر التاريخ، فعلى مدى آلاف السنين، ظل القمح ركيزة أساسية للأمن الغذائي والاقتصادي للمجتمعات. ومن خلال تاريخه الطويل، ارتبط بقيام حضارات عظيمة مثل الحضارة المصرية القديمة، والحضارات في بلاد ما بين النهرين، ويبدو أن تطور تهجين القمح هو السر الكامن وراء انتشار هذه المحاصيل وتكيفها مع البيئات المختلفة.
في دراسة حديثة منشورة في دورية نيتشر بتاريخ 14 أغسطس/آب الماضي، فسّر باحثون رحلة تطور قمح الخبز عبر تهجين أنواع متعددة من الأعشاب البرية. ويوضح الباحثون أن هذا التهجين نتج عن اندماج جينومات 3 أنواع من الأعشاب، الأمر الذي أدى إلى ظهور نوع سداسي الصبغيات يتميز بقدرته العالية على التكيف مع ظروف مناخية متنوعة، مما سمح بقيام الحضارات خارج منطقة الهلال الخصيب، ومن ثم تشكيل عالمنا اليوم البالغ تعداد سكانه 8 مليارات نسمة.
يتكون القمح الحديث من 3 جينومات فرعية (أ) و(ب) و(د)، كل منها أتى من قمح بري قريب، وقد ساهم “الدوسر الطوشي” وهو نبات بري، في جينوم (د) عندما تم تهجينه مع قمح المعكرونة المزروع في وقت مبكر في الهلال الخصيب في وقت ما بين 8 آلاف و11 ألف عام مضت.
واليوم، يعد الدوسر الطوشي مصدرا للتنوع الجيني لتربية وهندسة مقاومة الأمراض وغيرها من سمات تحمُّل الإجهاد في قمح الخبز. تقول أندريا جونزاليس مونوز، طالبة الدكتوراة في برنامج علوم النبات، قسم العلوم والهندسة البيولوجية والبيئية، بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية بالسعودية، وهي باحثة رئيسية في الدراسة، في تصريحات للجزيرة نت: ” يحمل الجينوم الشامل للدوسر الطوشي 72% من التنوع الجيني للأنواع التي تمثلها مجموعات الجينوم عالية الجودة لـ46 عينة. وتوفر المجموعات عالية الجودة كتالوجا عالي الدقة للتنوع الجيني.”
رحلة تدفق الجينات التاريخية
لم يكن انتشار قمح الخبز عبر العالم سهلا، فقد عانت بعض البيئات المختلفة من عدم ملاءمته لها، كما شهد اختناقات جينية تاريخيا نتيجة عمليات التهجين، إذ انخفض التنوع الجيني في جينوم (د) مقارنة بالجينومات الأخرى.
يعلق إيميل كافيليت جيورزا، طالب الدكتوراة في برنامج علوم النبات، قسم العلوم والهندسة البيولوجية والبيئية، بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية بالسعودية، وأحد الباحثين الرئيسيين بالدراسة: “ساهم تدفق المادة الوراثية من سلالات مختلفة في تنوع وراثي جديد كان غائبا في السابق عن جينوم قمح الخبز (د)، مما عزز قدرة هذه السلالة على التكيف مع الظروف المناخية الجديدة في أثناء التوسع الزراعي.” وهو ما ساعد على تعزيز قدرة قمح الخبز على التكيف مع بيئات جديدة خارج منطقة الهلال الخصيب.
عمل فريق من الباحثين الدوليين بقيادة جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية على تطوير مورد جينومي للدوسر الطوشي، بهدف تسريع اكتشاف الجينات وتحسين مقاومة الأمراض والظروف البيئية القاسية. وقد قاد فريق البحث براندي وولف وسيمون كراتينجر، إلى جانب جيورزا وجونزاليس، بتعاون دولي واسع في إطار اتحاد القمح البري المفتوح من أجل جمع وتحليل بيانات جينية من سلالات متعددة للدوسر الطوشي.
من الهلال الخصيب إلى أوروبا
أظهرت دراسات سابقة وجود سلالة مميزة من عشبة الدوسر الطوشي في دولة جورجيا الحالية بمنطقة القوقاز، تبعد حوالي 500 كيلومتر عن منطقة الهلال الخصيب. هذه السلالة ذات أهمية، لأنها منحت قمح الخبز الجين المعروف بجودة العجين.
في الدراسة الحالية، افترض الباحثون أنه إذا كان هناك تداخل جيني تاريخي مشابه لما نجده في الجينوم البشري، فمن المتوقع العثور على نسب أعلى من هذه السلالة في أصناف القمح الجورجية. وقد أظهرت التحليلات بالفعل أن أصناف القمح المحلية من جورجيا احتوت على نسبة 7% من هذه السلالة، وهي أعلى 7 مرات من نظيراتها في الهلال الخصيب.
يعلق طارق قابيل، خبير التكنولوجيا الحيوية وعضو هيئة التدريس، قسم التقنية الحيوية، كلية العلوم، جامعة القاهرة المصرية: “قدمت الدراسة فهما أعمق للتنوع الجيني لهذه العشبة أكثر مما كان متاحا سابقا. ومع ذلك، هناك دائما مجال للتحسين. فمثلا، يمكن إجراء دراسات إضافية باستخدام تقنيات جديدة لتعزيز دقة التجميع الجينومي. كما تمكن مقارنة النتائج مع دراسات أخرى أجريت على النوع نفسه أو على أنواع قريبة منه”.
وتقول جونزاليس إن “دراستنا هي الأولى التي تقدم كتالوجا لـ46 مجموعة جينوم عالية الجودة من الدوسر الطوشي، بما في ذلك مجموعات مرجعية على مستوى الكروموسوم لكل من سلالات الطوشي الثلاث. كما أنها توسع قائمة تنوع الدوسر الطوشي من 242 مجموعة جينية غير مكررة في دراسة سابقة إلى 493 مجموعة جينية غير مكررة مع بيانات الجينوم الكامل المتاحة للجمهور”. ويمثل هذا الكتالوج مصدرا غنيا للتنوع الجيني الذي يمكن استغلاله لتحسين صفات قمح الخبز.
ويقول قابيل إن نتائج دراسة الدوسر الطوشي تمثل خطوة مهمة نحو تأمين مستقبل الزراعة في ظل التحديات التي يفرضها تغير المناخ. ويضيف: “يمكن لهذه النتائج تسريع اكتشاف الجينات المرتبطة بتحمل الإجهاد وتحسين سلالات قمح الخبز لمواجهة الظروف البيئية القاسية.” ويحمل الدوسر الطوشي عديدا من السمات التي يمكن استخدامها لمواجهة تلك التحديات، بما في ذلك مقاومة الجفاف والملوحة والأمراض.
التنوع الجيني للقمح في مواجهة المناخ
من جانبه، يوضح جيورزا في تصريحه للجزيرة نت أن “التداخلات الجينية التي حدثت نتيجة تهجين قمح الخبز مع سلالات برية ذات صلة كانت حاسمة في إعادة بناء التنوع الجيني بعد الاختناقات الجينية، مما ساهم في جعل قمح الخبز من أهم المحاصيل المزروعة عالميا”.
هذه التداخلات ساعدت قمح الخبز على التوسع من موطنه الأصلي في الهلال الخصيب، حيث حوض نهري دجلة والفرات، والجزء الساحلي من بلاد الشام، التي كانت شاهدة على حضارات عالمية، وأهمها العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي، حيث نشأت الممالك والمدن في جنوب الرافدين وشمال جزيرة الفرات العراقية وغرب الشام، إلى مناطق مختلفة حول العالم. بفضل هذا التنوع الجيني المكتسب، أصبح من الممكن زراعة القمح في ظروف بيئية متنوعة، مما ساهم في تحسين الأمن الغذائي العالمي تاريخيا، وهو ما ساعد حضارات مختلفة خارج منطقة الهلال الخصيب على التطور والازدهار اقتصاديا.
واليوم، وعلى عكس البدايات، تعاني زراعة القمح في المنطقة العربية من انتشار عديد من الأمراض والآفات التي تؤثر على الإنتاج. ويمكن استخدام المعلومات المستخلصة من الدراسة لتحديد الجينات المسؤولة عن المقاومة لهذه الأمراض والآفات، وبالتالي تطوير أصناف قمح مقاومة لها، حسب قابيل.
ويختتم قابيل بأن “نتائج الدراسة تقدم فرصة فريدة لتحسين إنتاجية القمح في المنطقة العربية ومواجهة التحديات التي يفرضها تغير المناخ. ومع ذلك، يتطلب تحقيق هذا الهدف تضافر جهود الباحثين والمزارعين وصناع السياسات”.