مقدمة للترجمة

قد نكون على وشك تحقيق اكتشاف عظيم، ففي وقت سابق من هذا العام، أفاد علماء الفلك أن تلسكوب جيمس ويب الفضائي ربما رصد بالفعل أدلة على وجود النجوم الأولى، من خلال توجيه أدواته الفائقة إلى أطراف مجرة بعيدة جدا، وفي نفس السياق ظهرت أدلة تشير إلى أن النجوم الأولى قد تكون أقرب إلى الأرض مما كنا نعتقد سابقا، فهل سنتمكن بالفعل من رؤية النجوم الأولى في الكون في وقت أبكر بكثير مما كنا نعتقد؟ وهل تغير هذه النجوم من النماذج الفيزيائية التي يتبناها العلماء لتفسير فجر الكون؟ الإجابة في هذه المادة المترجمة من مجلة نيوساينتست.

نص الترجمة

ولادة النجوم الأولى تُعد أحد أبرز وأهم التحولات التي حدثت في تاريخ الكون، وما إن ظهرت إلى الوجود في الفترة ما بين 200 إلى 400 مليون سنة عقب الانفجار العظيم، حتى بدأت هذه النجوم في إطلاق طاقة هائلة أدت إلى تفكيك ذرات الغاز الذي كان يساهم في تبريد الكون، مما أعاد تسخينه في عملية تُسمى إعادة التأيين. لكنْ عندما احترقت تلك النجوم وانتهت رحلتها في هذا الكون، خلَّفت وراءها مجموعة من العناصر الكيميائية التي هيّأت الكون لتشكيل المجرات والكواكب، ومن ثم -في نهاية المطاف- تشكيل أسس الحياة كما نعرفها الآن.

لا عجب أن علماء الفلك راودتهم رغبة ملّحة في إلقاء نظرة على جيل النجوم الأول الذي أثار دهشتهم بالفعل، إذ بدت هذه النجوم -في وقت كان يُفترض أنه الفجر الكوني- موغلةً في الضخامة وشديدة السطوع، ويعتقد العلماء أن كتلتها قد تصل إلى ضعف كتلة شمسنا بنحو 300 مرة، وأشد سخونة منها بمقدار 10 مرات، إلا أن مراقبتها يمكن أن تخبرنا أيضًا بالكثير عن المرحلة المبكرة الغامضة للكون، وبالأخص عن كيفية تكوّن الثقوب السوداء العملاقة في فترة زمنية قصيرة جدًا، على ما يبدو.

والآن قد نكون على وشك تحقيق اكتشاف عظيم، ففي وقت سابق من هذا العام، أفاد علماء الفلك أن تلسكوب جيمس ويب الفضائي ربما رصدَ بالفعل أدلة على وجود النجوم الأولى، من خلال توجيه رؤيته الفائقة إلى أطراف مجرة بعيدة جدًا. وعن ذلك تقول هانا أوبلر من جامعة كامبريدج: “إن البيانات أو الملاحظات الجديدة التي نجمعها حاليًا تساعد في توسيع آفاق معرفتنا وفهمنا لما يحدث”. صحيح أن الإشارة التي رُصدتْ قد تكون مجرد إنذار كاذب، إلا أن ما يؤجج حماستنا حاليًا هو تركيز بعض العلماء الآخرين على أدلة مختلفة تتعلق بالضوء المبكر للكون. فثمة أدلة تشير إلى أن النجوم الأولى قد تكون أقرب إلى الأرض مما كنا نعتقد سابقًا.

ترتبط النجوم ارتباطا وثيقًا بالتركيب الكيميائي للكون، إذ لم يترك الانفجار العظيم وراءه سوى العنصرين الأخف وزنا، وهما الهيدروجين والهيليوم (بالإضافة إلى آثار من الليثيوم والبريليوم). أما العناصر الأثقل -مثل الأكسجين الذي نتنفسه، والحديد الذي نعدنه، والفضة التي نقدّرها ونعتز بها- فتشكلت في قلب النجوم عبر عملية الاندماج النووي التي جمعت الجسيمات دون الذرية معًا لتكوين ذراتٍ أكبر. وعندما تصل النجوم إلى مراحلها النهائية وتنفجر، تُواصل هذه العناصر سعيها متلمسةً طريقها في جميع أنحاء الكون لتندمج لاحقًا مع نجوم جديدة، وهو ما يؤدي بدوره إلى تكوين عناصر أثقل وأثقل. لذا، فإننا محقون إذا قلنا إن  العناصر الكيميائية التي تتكون منها أجسامنا، وكل ما حولنا، جاءت من غبار النجوم.

العمالقة البدائيون

قسَّم علماء الفلك النجوم التي اكتشفناها حتى الآن إلى نوعين؛ أطلقوا على الأول اسم “جمهرة النجوم الأولى” (Population I stars )، مثل شمسنا، وهي الأحدث من حيث العمر، وتنطوي على أعلى نسبة من العناصر الثقيلة، بينما أطلقوا على النوع الثاني “الجمهرة الثانية” (Population II)، وهي الأكبر سناً وتحتوي على عدد أقل من العناصر الثقيلة. كما استحدثوا تسمية ثالثة لمجموعة أخرى من النجوم وأطلقوا عليها “الجمهرة الثالثة” (Population III)، والتي تُعتبر أقدم النجوم وتتشكّل فقط من الهيدروجين والهيليوم.

في أيامنا هذه، إذا نما نجم ما لتصبح كتلته أكبر من كتلة شمسنا بمقدار 100 مرة، فإنه سيُنتج قدرًا هائلا من الطاقة الداخلية، لدرجة أن الضغط الداخلي يدفع الطبقات الخارجية للنجم بعيدًا إلى الفضاء، وبالتالي لا يمكن للنجم أن يصبح أكبر من ذلك، وهو ما يفرض حداً أقصى على الكتلة التي يمكن أن تكتسبها النجوم الحديثة.

لكنّ الأمر ليس كذلك مع جمهرة النجوم الثالثة، فغياب العناصر الأثقل يؤدي إلى تقليل الضغط الذي عادةً ما يدفع الطبقات الخارجية للنجم نحو الفضاء. وفي هذا السياق، يقول سيمون غلوفر من جامعة هايدلبرغ الألمانية: “إذا تشكلت نجوم الجمهرة الثالثة بكتلة كبيرة منذ البداية، فإنها تظل ضخمة”. ووفقًا لهذه الافتراضات، اعتقد علماء الفيزياء الفلكية منذ فترة طويلة أن معظم النجوم الأولى كانت عملاقة، وفي الأغلب بلغت كتلتُها ضعف كتلة شمسنا بمئات المرات.

إن غياب العناصر الثقيلة في النجوم الأولى التي تشكلت في الكون يعني أيضًا أنها كانت بحاجة إلى أن تصبح أكثر كثافة وأشد حرارة، لتوليد الطاقة اللازمة للحفاظ على استقرارها ومنع نفسها من الانهيار تحت تأثير الجاذبية، فكلما ازداد حجم النجم ودرجة حرارته، كانت حياته أقصر نسبيًا. لذلك، يعتقد علماء الفلك أن النجوم الأولى كانت تستهلك طاقتها بسرعة كبيرة، وهو ما أدى إلى موتها في عمر صغير، أي بعد 5 ملايين عام فقط. وإن كان ذلك صحيحًا، فهذا يعني أن جميع النجوم الأولى قد ماتت منذ زمن بعيد.

لكنْ بالرغم من أن رؤية أحد النجوم الأولى في الكون تُعتبر مهمة صعبة للغاية نظرًا لبعدها الشديد وانقراضها منذ زمن بعيد، فذلك لا يعني أنها مهمة مستحيلة تمامًا، إذ لا تزال هناك فرصة ضئيلة لرؤية ضوء هذه النجوم، لأن النظر إلى أجسام بعيدة جدًا في الفضاء يعادل النظر إلى الماضي، نظرًا إلى الوقت الطويل الذي يستغرقه الضوء للوصول إلينا (بمعنى أن الضوء الذي سيصلنا هو ضوء النجوم التي ماتت منذ زمن بعيد*).

أحد الأسباب التي تؤجج اهتمام العلماء برؤية النجوم الأولى في الكون، هو حل لغز الثقوب السوداء فائقة الضخامة، التي تتراوح كتلتها ما بين مليون إلى مليارات أضعاف كتلة الشمس. ومن المعروف أن أحد هذه الوحوش يقع في مركز كل مجرة ​​تقريبًا، لذا يبقى السؤال الأهم هنا: كيف وصلت هذه الثقوب السوداء إلى هناك؟ الإجابة المحتملة هي أنه عندما انفجرت النجوم الأولى وماتت، تناثرت طبقاتها الخارجية في الفضاء، بينما انهارت الكتلة المتبقية لتشكّل ثقوبًا سوداء تتراوح كتلتها ما بين 10 إلى 100 ضعف كتلة شمسنا، في حين يفترض العلماء أن هذه الثقوب السوداء التي تكونت في بداية عمر الكون بعد انفجار النجوم الأولى، والتي كانت أصغر بكثير من الثقوب السوداء العملاقة التي نراها اليوم، قد اصطدمت بعضها ببعض وتغذت على النجوم المارة والسحب الغازية، ونمت تدريجيًا إلى الثقوب السوداء العملاقة التي نراها اليوم.

كلما تعمقنا في تاريخ الكون، ازدادت دهشتنا من رؤية مجرات مكتملة التكوين وثقوب سوداء موغلة في الضخامة لم يكن يُفترَض لها أن توجد في تلك الفترة المبكرة من عمر الكون. تُثير هذه الاكتشافات الدهشة لأن العلماء يعتقدون أنه لم يكن هناك وقت كافٍ لتكوين هذه الكيانات الضخمة في تلك الفترة الزمنية القصيرة التي أعقبت الانفجار العظيم، ويصف سيمون غلوفر هذه الظاهرة بأنها أحد أكبر ألغاز الكون متسائلا: “كيف يمكن لثقوب سوداء بهذه الضخامة أن توجد في وقت مبكر جدًا من عمر الكون؟”.

يعتقد بعض العلماء ومنهم غلوفر، أن هذه الظاهرة قد تكشف عن معلومات جديدة واستثنائية حول النجوم الأولى في الكون. فحينما راجع العديد من فرق الباحثين نماذجهم الحاسوبية، اكتشفوا شيئا مفاجئا؛ أنه مع ارتفاع درجات حرارة الغاز في الكون خلال فترة إعادة التأيين، انهارت هذه السحب الأكثر سخونة لتشكّل نجومًا فردية ذات كتلة هائلة للغاية. ونحن هنا لا نتحدث عن نجوم تبلغ كتلتها بضع مئات المرات من كتلة الشمس فحسب، بل ربما تصل إلى عشرات آلاف المرات. ومن جانبه يقول غلوفر: “يمكن لهذه النجوم العملاقة أن تكون طريقًا لتكوين الثقوب السوداء فائقة الضخامة في وقت مبكر من عمر الكون”، فما إن تكتسب هذه النجوم كتلة كبيرة للغاية، حتى تنهار لتتحول إلى ثقب أسود بعد فترة قصيرة من التألق الشديد. لكنْ لإثبات هذه الفكرة، يحتاج العلماء إلى العثور على هذه النجوم الأولى ودراستها لفهم طبيعتها الحقيقية.

يمكن لهذه النجوم العملاقة أن تكون طريقًا لتكوين الثقوب السوداء فائقة الضخامة في وقت مبكر من عمر الكون (مؤسسة العلوم الوطنية)

مبدئيا، يمكن اكتشاف النجوم الأولى باستخدام تقنية تُسمى التحليل الطيفي. تعتمد هذه التقنية على قياس شدة الضوء عبر مجموعة من الأطوال الموجية المختلفة، بحيث تمتص العناصر المختلفة أطوالا موجية معينة من الضوء، وبالتالي يمكن للتحليل الطيفي أن يقدِّم قراءة شبيهة ببصمة للنجم، توضح بالضبط العناصر التي يحتويها وكمياتِها. منذ الخمسينيات، واصل العلماء سعيهم في إجراء مسوح طيفية للسماء بهدف العثور على نجوم تنطوي على كميات ضئيلة جدًا من العناصر الثقيلة، وبالفعل تحقق هدفهم المنشود واكتشفوا بعض النجوم القديمة جدًا، لكنها لم تكن قديمة بما يكفي لتُصنَّف ضمن نجوم الجمهرة الثالثة، التي تمثل النجوم الأولى التي تشكلت في الكون.

من المؤسف أنه حتى تلسكوب جيمس ويب الفضائي الذي صُمم خصيصاً لمراقبة أبعد مدى ممكن في الكون، لا يستطيع رصد نجوم الجمهرة الثالثة بصورة مباشرة، ولكنّ الخبر السار هو أنه قد يكون قادراً على رصدها من خلال التأثيرات التي تُحدِثها في محيطها، حتى لو لم يكن بإمكانه رصدها مباشرة. كانت الإشعاعات القوية التي تُصدرها هذه النجوم قادرة على إضاءة السحب الغازية المحيطة بها، ونزع جميع الإلكترونات من ذرات الهيليوم الموجودة هناك، مما أدى إلى تكوين أيونات “الهيليوم 2”. بعد ذلك، تتحد بعض هذه الإلكترونات مع ذراتها الأصلية، مما يؤدي إلى توهجها. وبالنظر إلى أن حجم سحب الغاز المتوهجة أكبر بكثير مقارنة بحجم النجوم نفسها، فيُفترض أن يكون من الأسهل رؤيتها. وتعتقد أوبلر وزملاؤها أنهم اكتشفوا هذه السحب المتوهجة.

تعاونت أوبلر مع روبرتو مايولينو من جامعة كامبريدج وآخرين في هذه المهمة. استخدم الفريق جهاز مطياف الأشعة تحت الحمراء القريبة الخاص بتلسكوب جيمس ويب، لدراسة مجرة ​​بعيدة أُعلِن عن اكتشافها لأول مرة عام 2016. هذه المجرة المُسماة “جي.أن زي11″، كانت في ذلك الوقت أقدم مجرة رُصدت على الإطلاق، إذ يبلغ عمرها 13.4 مليار سنة. لهذا اعتُبرت هذه المجرة مرشحًا رئيسيًا لوجود نجوم “الجمهرة الثالثة” في هالتها، وهي المناطق الخارجية من المجرة حيث يتجمع الغاز البدائي.

عندما حصل الباحثون على البيانات المتعلقة بالمجرة “جي.أن زي11″، توصلوا إلى بعض الأدلة الأولية على وجود أيونات “الهيليوم 2” قرب المجرة، مما يشير إلى أنها قد تكون موجودة في هالة المجرة. إلا أن الباحثين طلبوا وقتًا إضافيًا لاستخدام تلسكوب جيمس ويب الفضائي لمزيد من الدراسة الدقيقة للمنطقة المحيطة بهذه المجرة، وبالفعل حصلوا على هذا الوقت، وكشفت نتائجهم التي نشروها هذا العام عن أدلة تشير إلى وجود أيونات “الهيليوم 2″، وهو ما يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل اكتشفوا بالفعل الدليل القاطع على وجود نجوم من الجمهرة الثالثة (أولى النجوم في الكون)؟

أكبر من شمسنا 300 مرة

صحيح أنه يُحتمل أن يكون الإشعاع الناتج عن أيونات “الهيليوم 2” قادما من نجوم الجمهرة الثالثة، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن هذا هو التفسير الوحيد، فقد تكون هناك تفسيرات أخرى محتملة. على سبيل المثال، يقول غلوفر: ثمة مجرة قريبة نسبيًا تُدعى “آي زويكي 18” تنطوي على كمية كبيرة من الهيليوم المتأيّن بشدة، ولكن العلماء لا يعتقدون أن هذه الظاهرة ناتجة عن نجوم الجمهرة الثالثة، بل يعتقدون أن الإشعاع المؤين هناك ناتج عن عملية سَحب الغاز من نجم مجاور إلى نجم نيوتروني كثيف جدًا أو ثقب أسود (عندما يُسحَب الغاز من النجم إلى هذه الأجسام الكثيفة، يتعرض لعملية تأيين قوية بسبب الطاقة الهائلة الناتجة عن هذه الأجسام، وهو ما يؤدي إلى إنتاج إشعاع مشابه لما قد تنتجه نجوم الجمهرة الثالثة*). بعبارة أخرى، إذا أردنا التأكد من أن الغاز المتوهج ناتج عن نجوم الجمهرة الثالثة، فيجب أولًا استبعاد التفسيرات الأخرى المحتملة.

على الجانب الآخر، يُدرك روبرتو مايولينو من جامعة كامبريدج هو وفريقه، أن النتائج التي توصلوا إليها حتى الآن لا تزال غير مؤكدة تمامًا، ويقول: “لهذا السبب ما زلنا نعتبر أن هذه النتائج لا تتعدى كونها نتائج مبدئية”. وفي محاولة لتحديد المصدر الحقيقي للإشعاع المؤين، حصل هو وزملاؤه على 40 ساعة إضافية من وقت استخدام تلسكوب جيمس ويب الفضائي، وهو وقت ثمين ومحدود، خصصوه لدراسة مصدر الإشعاع المؤين بصورة مفصلة. ومن المفترض أن تستمر هذه الدراسة التفصيلية حتى شهر مايو 2025 لجمع البيانات اللازمة لمحاولة تأكيد أو نفي فرضيتهم حول وجود نجوم الجمهرة الثالثة.

وتهدف الدراسة إلى اكتشاف حتى أضعف الآثار للعناصر الثقيلة، فإذا اكتشف الفريق هذه العناصر، فهذا يشير إلى أن نجوم الجمهرة الثالثة ليست المسؤولة عن الإشعاع، ولكن إذا لم يعثروا على العناصر الثقيلة، فقد يكون هذا اكتشافًا مؤكدًا لوجود جمهرة النجوم الثالثة. وعن ذلك يؤكد مايولينو أنهم يحاولون استغلال كافة إمكانيات تلسكوب جيمس ويب وقدراته للوصول إلى أقصى حدود دقته وتحقيق الهدف المنشود.

ولكنّ طريقة أوبلر ومايولينو ليست الأداة الوحيدة المتاحة لدراسة نجوم الجمهرة الثالثة، فقد اقترحت رودراني كار شودري من جامعة هونغ كونغ وزملاؤها مؤخرًا طريقة أخرى، وهي البحث عن الوميض اللامع أو التوهجات شديدة السطوع التي تنبعث من نجوم الجمهرة الثالثة حينما تقع فريسة للثقب الأسود وتتمزق في النهاية، وهي العملية المعروفة باسم “حدث الاضطراب الموجي العنيف”. وتشير شودري إلى أن تلسكوب جيمس ويب بإمكانه اكتشاف ثقوب سوداء عملاقة (في أجزاء بعيدة جدًا من الكون)، وهو ما دفعهم للتفكير في إمكانية وجود نجم من جمهرة النجوم الثالثة تمتصه إحدى هذه الثقوب السوداء العملاقة، مما يسبب هذه التوهجات الساطعة.

عندما يُمزق ثقب أسود أحدَ النجوم، فإن الأخير يُطلِق كتلة أكبر مما يستطيع الثقب الأسود ابتلاعه بسهولة، وهو ما يخلق بيئة شديدة الاضطراب، حيث يسخن غاز النجم ويتوهج. لكن عندما يحدث هذا لنجم من الجمهرة الأولى أو الثانية، فإن الإشعاع يتفاعل مع العناصر الثقيلة ويدفع رياحًا نجمية تعمل على تبريد الغاز المتبقي، مما يسمح له بالاستقرار داخل الثقب الأسود. لكنْ في حالة نجوم الجمهرة الثالثة التي تفتقر إلى العناصر الثقيلة، لا تحدث هذه التفاعلات التي تُسبب التبريد، وبالتالي يظل الغاز ساخنًا ومتوهجًا لفترة أطول.

إن لمعان ومدة الوميض الناتج عن تمزق نجم بواسطة ثقب أسود، والمعروف باسم “منحنى الضوء”، يمكن ربطه بكتلة النجم وكثافته ومحتواه من العناصر الثقيلة. (بعبارة أخرى، كلما كان النجم الممزق أكبر وأشد كثافة ويفتقر إلى العناصر الثقيلة، اختلفت خصائص الوميض الناتجة عنه*). ومن جانبها تضيف تشودري: “إذا تمكنا من رصد بعض من منحنيات الضوء الناتجة عن مثل هذه الأحداث الكبرى لتفكيك النجوم، فيمكننا استخدام هذه المعلومات لاستنتاج خصائص نجوم الجمهرة الثالثة”.

لن يكون رصد أحداث تمزق النجوم بواسطة ثقوب سوداء بالمهمة اليسيرة، فبالرغم من أن هذه الأحداث تقع ضمن الحدود التي يمكن أن يرصدها كل من تلسكوب جيمس ويب الفضائي وتلسكوب نانسي غريس رومان التابع لوكالة ناسا، فإن الفريق يرى أن مثل هذه الأحداث نادرة ولا يمكن التنبؤ بها على الإطلاق، وهذا من شأنه أن يمنح تلسكوب رومان الأفضلية لأنه مُصمَّم لمسح مساحة أكبر من السماء. تأكيدًا على ذلك، تقول جانيت تشانغ، زميلة تشودري في جامعة هونغ كونغ: “إذا ما قارنا تلسكوب جيمس ويب بتلسكوب رومان، سنجد أن الأخير يغطي مساحة أكبر من السماء بنحو 100 مرة، مما يعزز فرص اكتشاف هذه الأحداث النادرة”.

مختبئة على مقربة منا

ما زال هناك تطور مفاجئ في القصة لم يُذكر بعد، فبينما يواصل معظم علماء الفلك التركيز على الأجزاء البعيدة جدًا في الكون آملين العثور على هذه النجوم الأولى، بدأ آخرون في الاشتباه بوجود بعض النجوم الباقية من تلك الحقبة البعيدة في المناطق القريبة نسبياً من مجرتنا “درب التبانة”، أو في مجرات قريبة.

لكنّ المشكلة أن النماذج الأولى لنجوم الجمهرة الثالثة، التي بدأت عملية إعادة التأيّن وإعادة تسخين الغاز في الكون، اقترحت أن هذه النجوم كانت تزن أضعاف كتلة الشمس بمئات المرات. إلا أنه على مدار العقد الماضي، سمحت التطورات في قوة الحوسبة لعلماء الفلك بتنفيذ عمليات محاكاة أكثر تعقيدًا، وأظهرت هذه المحاكاة أن النماذج الأولى ربما تجاهلت أو لم تأخذ في اعتبارها تأثير دوران السحابة الغازية التي أدت إلى تشكيل النجم. تتضح أهمية هذا التأثير عندما تكون السحابة الغازية أبرد قليلا. (بمعنى آخر، يمكن لدوران الغاز أن يلعب دورًا كبيرًا في كيفية تطور النجم، وهذا التأثير ربما تجاهلته النماذج القديمة.*)

تميل السحابة الغازية الباردة نسبيًا والتي تنهار على ذاتها بفعل الجاذبية بصورة طبيعية؛ للتحول إلى شكل قرصي يشبه عجينة البيتزا، وهذا يعني أن جميع الكتل الأولية للسحابة لا تنتهي بالكامل في النجم المركزي، بل يُوَزع جزء من الكتلة في القرص المحيط بالنجم المركزي. وفي هذا القرص، يمكن أن تتفتت الكتلة إلى نجوم أصغر بجانب النجم الرئيسي، وهو ما يفسر لماذا يمكن أن تنشأ مجموعة من النجوم ذات كتل مختلفة، بدلاً من نجم ضخم واحد فقط.

قد تكون بعض هذه النجوم صغيرة للغاية، ربما بحجم نصف كتلة شمسنا. وكما نعرف، فهناك علاقة عكسية بين كتلة النجم ومدة حياته، فكلما كانت الكتلة أصغر، عاش النجم فترة أطول. وبناءً على هذا، فإن النجوم ذات الكتل الصغيرة يمكن أن تستمر في استخدام وقودها النووي لعشرات المليارات أو حتى تريليونات السنين.

ومن جانبه، يقول رالف كليسن من جامعة هايدلبرغ الألمانية: “إذا كانت نجوم الجمهرة الثالثة قد تشكلت بكتل أقل من 0.8 أو 0.7 من كتلة الشمس، فإنها يمكن أن تعيش لفترة أطول من عمر الكون الحالي، لذا فإن كل نجم من هذه النجوم لا بد أن يظل موجوداً إلى الآن”.

على الجانب الآخر، يوجد سبب للاعتقاد بأن بعض هذه النجوم قد تكون مختبئة على مقربة من مجرتنا. في عام 2018، رصد العلماء نجمًا يُدعى “SMSS J1605-1443″، يحتوي على كمية ضئيلة جدًا من الحديد (أقل بمليون مرة من كمية الحديد في الشمس)، ويقع في هالة مجرة درب التبانة. ومع أنه ليس نجمًا من نجوم الجمهرة الثالثة (لاحتوائه على بعض الحديد وكمية كبيرة نسبيًا من الكربون)، فإنه على الأرجح من نسل مباشر لنجوم الجمهرة الثالثة، فتكوينه غير المعتاد يجعلنا لا نفهم تمامًا سبب وجوده بهذا الشكل، لكنّ اكتشافه يدل على أن النجوم القديمة قد لا تبدو تمامًا كما نتوقع، ويمكن أن نجدها قريبة منّا وليست بهذا البعد الذي نتخيله.

وعلاوة على ذلك، كشفت دراسة حديثة استخدمت بيانات من مهمة “غايا” التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، عن 200 ألف نجم في مجرة درب التبانة يبدو أنها تفتقر بشدة إلى العناصر الثقيلة، وهو ما يمنحنا عددًا هائلا من الأهداف المثيرة للاهتمام لدراستها والبحث فيها. في النهاية، لا يسعنا إلا أن نتساءل: “هل سنتمكن بالفعل من رؤية النجوم الأولى في الكون في وقت أبكر بكثير مما كنا نعتقد؟”.

* إضافات من المترجم

هذه المادة مترجمة عن موقع نيوساينتست، ولا تعبر عن الجزيرة نت بالضرورة

شاركها.
Exit mobile version