هناك بالطبع طرق علمية عدة تمكن العلماء من فهم كروية الأرض، تبدأ من صور الأقمار الصناعية والرحلات الفضائية، ولا تقف عند الحسابات الرياضياتية، وهذا أمر تمكن المفكرون والفلاسفة والعلماء قبل قرون من حسمه، وفي مادة سابقة بعنوان ” كيف فند علماء المسلمين نظرية الأرض المسطحة قبل ألف سنة؟” تبين لنا كيف تمكن فلكيو الخليفة المأمون ومن بعدهم أبو الريحان البيروني من حساب محيط الأرض الكروي بدقة غير مسبوقة بالنسبة لعصرهم.
لكن لأن تلك الطرق معقدة، فإن هناك مجموعة أخرى من الطرق التي يمكنك دراستها بنفسك، وهي تتعلق ببعض الأساسات البسيطة لعلم الفلك، ولفهم الأمر تخيل أننا طلبنا مهمة خاصة من صديقين، وهي أن يذهب كل منهما إلى أحد أقطاب كوكب الأرض.
القمر المقلوب
نحن نعرف أن الأرض كروية، لذلك ما إن يصل كل من الصديقين إلى غايته فسيكون بالنسبة للآخر مقلوبا تماما، لكن كلا منهما سيظن أنه في أعلى نقطة، وتحته يقف كل الكوكب، يحدث ذلك فقط لأن كوكب الأرض ضخم للغاية، بحيث لا نتمكن من إدراك شكله، فنظن أننا دائما ننظر إلى أعلى حينما ننظر إلى السماء وإلى الأسفل حينما ننظر تحت أقدامنا، خاصة أن الجاذبية تشدنا للأسفل.
يعني ذلك أنه بالنسبة إلى شخص قريب من القطب الشمالي، وآخر قريب من القطب الجنوبي، يرفعان رأسيهما إلى السماء، فإن القمر سيبدو مختلفا بالنسبة إلى كل منهما، فلو كانت هناك مجموعة مميزة من التضاريس القمرية بالنسبة لأحدهما في الجانب العلوي من سطح القمر، فستكون في الجانب السفلي للآخر.
كل الفكرة هنا أن الأمر يعتمد على منظورك أنت من المنطقة التي تقف فوقها على الكوكب، لذلك ستجد أنه، في كل مكان على الأرض، وعلى كل خط عرض، سيتغير منظور القمر للناس، بينما كل منهم يرفع رأسه إلى السماء التي توجد “بالأعلى” بالنسبة إليه.
أطوار القمر
ليس ذلك فقط، بل أيضا تنقلب أطوار القمر في نصف الكرة الأرضية الجنوبي عن الشمالي، على سبيل المثال، هنا في الوطن العربي يبدأ الهلال الشهر الهجري متخذا شكل حرف “سي” الإنجليزي (C) المعكوس، ثم ينمو شيئا فشيئا حتى يصل إلى التربيع الأول الذي يشبه حرف “دي” الإنجليزي (D) ثم يستكمل رحلته إلى البدر، بعد ذلك إلى التربيع الثاني الذي يشبه حرف “D” المعكوس، ثم إلى الهلال الأخير للشهر الهجري والذي يشبه حرف “C” العادي، لكن في أستراليا، مثلا، سوف يحدث العكس تماما، يبدأ القمر بهلال يتخذ شكل حرف “C” العادي، وينتهي عل شكل حرف “C” المعكوس.
الآن، بعد أن فهمنا الفكرة، ابدأ بالبحث على وسائل التواصل الاجتماعي عن شخص يسكن في أي مكان جنوبي الكوكب (أستراليا مثلا أو الأرجنتين أو شيلي أو جنوب أفريقيا)، واطلب منه أن يلتقط لك صورة القمر البدر بكاميرا هاتفه، ثم قارنها بصورة تلتقطها أنت في مصر أو أي بلد عربي أو الأفضل في شمالي أوروبا، ستلاحظ فورا أن القمر مقلوب أو مائل بشكل كبير، حسب الفارق بين موضعيكما على الأرض، اطلب منه كذلك أن يخبرك بأطوار القمر واتجاهاتها، سيقول لك إنها مقلوبة أيضا.
هنا، يدخل المؤمن بالأرض المسطحة ليقول إن القمر لو كان عبارة عن مصباح مسطّح يقف أعلى الأرض فإن البعض قد يراه مقلوبا أيضا، لكن ذلك يعيدنا لخريطة الأرض المسطحة، فهي متناقضة تماما مع ذلك، لأنها ترى أن جنوب أفريقيا وأستراليا وجنوبي أميركا الجنوبية مثلا هي مناطق تمثل أطرافا مختلفة لنفس العالم، لم إذن سيراه الناس في هذه المناطق الثلاث مقلوبا مقارنة بهنا في الوطن العربي؟! هذا لن يحدث إلا في أرض كروية، لأن هذه الأطراف الثلاثة توجد إلى جوار بعضها بعضا جنوبي الكرة!
تغير موضع القمر في السماء
كل هذا ولم نتحدث أصلا عن أطوار القمر، لفهم حركة القمر في السماء دعنا نبدأ بتجربة بسيطة، ضع أمامك على الطاولة مصباحا ذا قدرة إضاءة عالية، ثم أمسك بكرة بلاستيكية صغيرة ومد يديك بها إلى الأمام، ثم در حول نفسك أمام المصباح، هنا ستلاحظ أن إضاءة المصباح ستنعكس على تلك الكرة في يديك، لكن هذا الانعكاس سيعطي إضاءة تختلف شيئا فشيئا مع دورانك، فمثلا حينما تكون في مواجهة المصباح لن تتمكن من رؤيتها بوضوح لأن شدة إضاءة المصباح تعميك. أما حينما تبدأ في الدوران فسوف تلاحظ تزايد إضاءة المصباح على الكرة، بالضبط كأطوار القمر. أطوار القمر بالأساس ليست إلا منظورنا على الأرض تجاه القمر.
الآن، دعنا نتأمل تلك الدورة الخاصة بالقمر، لكن من منظورنا على الأرض، يولد الشهر القمري الجديد حينما يكون القمر واقفا تماما بجوار الشمس “قمر جديد”، فلا نتمكن من رؤيته، لأن نور الشمس يعمينا عنه، ثم في اليوم التالي يكون القمر قد تحرك في دورته قليلا مبتعدا عن الشمس، في تلك الحالة سنرى الشمس تغرب ثم يغرب القمر بعدها بفترة.
بالنسبة إلينا يتأخر غروب القمر بعد الشمس بنحو 50 دقيقة كل يوم، هذا ليس سحرا، ولكنه فقط المقابل الطبيعي لحركة القمر حول الأرض، من منظورنا على الأرض، دعنا نضرب مثالا بسيطا: في أحد الأيام، إذا غربت الشمس في السادسة مساء وغرب القمر بعدها في 06:50، في اليوم التالي نضيف جرعة فيغرب القمر في 07:40، ثم 50 دقيقة إضافية لليوم التالي فتغرب الشمس في السادسة تقريبا والقمر في 08:30 مساء، وهكذا نستمر في إضافة 50 دقيقة كل يوم، ويستمر القمر موجودا في السماء لفترة أطول ومسافة أكبر بينه وبين الشمس.
يمكن لك أن تراقب ذلك كل يوم، اخرج في أول أو ثاني أيام الشهر الهجري بعد الغروب وابحث عن الهلال، ثم كرر الخروج في نفس الموعد يوميا وستلاحظ التغير في شكل القمر وحركته في السماء، حيث سيبدو وكأنه يقفز مبتعدا عن الشمس يوما بعد يوم.
ما سبق مفهوم لأن الأرض كرة تدور حول نفسها، كما كنت تدور حول نفسك قبل قليل، لكن بالنسبة للأرض المسطحة: لمَ أصلا يظهر القمر بأطوار مختلفة؟ ولمَ يظهر بمواعيد مختلفة؟ تتعامل كثير من توجهات الأرض المسطحة مع القمر والشمس على أنهما صور في السماء وليست أجرام فضائية.
إلى النجوم
إذا كانت الأرض مسطحة، فإن الناس على كل الأرض سترى النجوم نفسها بالسماء ليلا، لكن ذلك لا يحدث، فالشخص الذي يسكن في دولة قريبة من القطب الشمالي لن يرى مجموعة من النجوم التي يراها من يسكن في جنوب أفريقيا مثلا. كلما اختلف موقعك على الأرض يمكن لك أن ترى نجوما لا يراها الآخرون. أمسك بهاتفك النقّال وتحدث مع صديق في أستراليا، وقل له إن ذلك النجم الموجود فوقك الآن رائع، سيخرج لسطح منزله ولن يراه، بل سيرى نجوما أخرى.
تتغير النجوم في السماء كلما انتقلت من الشمال للجنوب على الكوكب، ولا نقصد هنا أن تكون في مصر فترى نجوما مختلفة تماما عن السودان طبعا، ولكن المسافات الطفيفة تصنع تغيرات طفيفة، والمسافات الشاسعة تصنع تغيرات جذرية في مواضع غالبية نجوم السماء.
أضف لذلك أن تلك الحالة لا تحدث كلما انتقل موضعك على الأرض من الشرق للغرب، كأن تكون في مصر مثلا وتنتقل إلى ليبيا أو الجزائر، ذلك لأن الأرض تدور حول نفسها من الغرب للشرق وليس من الشمال للجنوب، بالتالي فإن ما ستراه سيراه رفيقاك في الجزائر أو ليبيا أيضا.
كيف يمكن لذلك أن يحدث في أرض مسطحة تعلوها قبة واحدة؟! قد يجد منظر الأرض المسطحة أي طريقة لتلافي ذلك، لكننا نعود للخريطة المزعومة التي تقول إن جنوب أفريقيا وأستراليا وجنوبي أميركا الجنوبية هي مناطق تمثل أطراف مختلفة لنفس العالم، لمَ إذن سيرى الناس النجوم نفسها في هذه المناطق الثلاث مقارنة بهنا على الوطن العربي؟! هذا لن يحدث إلا في أرض كروية.
ألعاب النجوم
من جانب آخر، فإن النجوم أصلا تتغير من فصل لآخر، وقد وعى البشر تلك المعرفة من قديم الزمن، وربطت العرب قديما مثلا بين تغير النجوم في السماء من موسم لآخر واختلافات الطقس، نعرف مثلا أن نجوما مثل “سهيل” تظهر حينما يقترب الطقس الحار من الانكسار، بينما يشير ظهور مجموعة نجوم الثريا فجرا إلى اشتداد الحرارة، وفي الشتاء نرى نجوم الصياد، بينما في الصيف نرى العقرب.
يحدث ذلك لأن الأرض تدور حول الشمس، ولفهم الفكرة تخيل أن هناك قاعة كبيرة، يقف صديقان في منتصفها، أحدهما يحمل مصباحا قويا والثاني يدور حوله، بالنسبة لهذا الصديق الذي يدور فإنه لا يتمكن بسهولة من رؤية ما يقع خلف المصباح، لكن حينما يستكمل دورته ويلف نصف دائرة حول صديقه سيرى تلك الأشياء التي لم يستطع أن يراها قبل قليل.
الشمس تفعل الشيء نفسه مع الأرض، فكلما تغير موضع الأرض في أثناء دورانها حول الشمس، شاهدنا في الليل نجوما مختلفة، وفي شهر يوليو/تموز مثلا نرى نجوما كانت بالنسبة لنا تقع خلف الشمس في يناير/كانون الثاني.
هذا أمر يمكن لك التأكد منه بسهولة عبر تأمل السماء ليلا، حيث تتغير غالبية نجومها فصلا بعد فصل، يحدث ذلك لأن الأرض هي التي تدور حول الشمس، على عكس نموذج الأرض المسطحة الذي يفترض أن الشمس والقمر أصغر من الأرض ويدوران في سمائها.