ظهر “تيك توك” غازيا ساحة منصات مشاركة مقاطع الفيديو، ومنذ ظهوره شهدت منصات التواصل الاجتماعي تغييرات في شكلها ساعية بذلك محاكاة التجربة الفريدة التي تقدمها هذه المنصة، وهذا الأمر لم يقتصر على منصات التواصل المعتادة مثل “فيسبوك” و”إكس” و”إنستغرام”، بل امتد إلى “يوتيوب” عملاق مشاركة مقاطع الفيديو الذي تربع على عرشها لسنوات دون منافس.

تكمن جاذبية “تيك توك” في قدرتك على الانتقال بين عدد لا نهائي من مقاطع الفيديو القصيرة عبر حركة بسيطة للأعلى، وهي التجربة ذاتها التي تحاول جميع المنصات محاكاتها، إذ يؤمن المستخدمون بأنها آلية فعالة لقتل الوقت والحصول على الترفيه اللازم، وذلك قبل أن تصدر أحدث دراسة في صحيفة “جورنال أوف إكسبريمنتال سايكولوجي” التي أشارت إلى أن هذه الآلية ذاتها هي السبب الرئيسي في فقدان الشغف والملل المستمر الذي يشعر به مستخدمو منصات التواصل الاجتماعي.

لذلك، وبدلا من أن ينتهي الشعور بالملل نتيجة التصفح المستمر في منصات التواصل الاجتماعي، يزداد شعور الملل لدى المستخدم كلما أمضى وقتا أطول يتنقل بين هذه المقاطع، وهذا الشعور بالملل يدفعه للاستمرار والبقاء في المنصة لفترة أطول مما يزيد بالتبعية من شعور الملل مجددا، ليجد المستخدم نفسه في دائرة مفرغة يبحث داخلها عن متعة زائلة.

كيف أجريت الدراسة؟

لا يمكن الحكم على جودة النتائج التي تقدمها أي دراسة مهما كانت غريبة دون معرفة آلية تطبيق هذه الدراسة وجمع البيانات فيها، وفي هذه الدراسة، قامت كاتي تام الباحثة الرئيسية فيها وزميل ما بعد الدكتوراه في علم النفس بجامعة تورنتو في سكاربورو بدراسة أكثر من 1200 شخص مختلف موزعين على 7 تجارب مختلفة حافظت على الآلية ذاتها في الاختبار.

وتضمنت عملية الاختبار إعطاء كل مجموعة من الأشخاص نوعين من مقاطع الفيديو ثم سؤالهم عن مدى إعجابهم وتفاعلهم مع المقطع، النوع الأول كان مقطعا واحدا فقط لا يمكن تسريعه أو مغادرته والانتقال إلى مقطع آخر أو حتى إعادته، أي أن الشخص يشاهده مرة واحدة فقط، والنوع الثاني كان مجموعة من المقاطع يمكن التنقل بينها في آلية تشبه تلك الخاصة بمنصات التواصل الاجتماعي.

جاءت نتائج الدراسة مفاجئة للجميع والمشاركين فيها بشكل خاص، إذ شعروا بمتعة أكبر وتفاعل أعلى مع المقطع الذي لم يتمكنوا من تركه والتحكم فيه كما يرغبون، أما النوع الثاني من المقاطع الذي يمكن للمستخدم التحكم فيه فلم يكن مرضيا لهم بأي شكل من الأشكال.

ووضحت تام هذه النتائج في مقابلتها مع “سي إن إن” (CNN) مشيرة إلى أن الدراسة أثبتت أن التحكم في مقاطع الفيديو والقفز بينها يزيد من الشعور بالملل، ويخفض تفاعل المشاهد مع المقاطع المختلفة، ولكن لماذا هذه النتائج؟

حالة “فومو” مستمرة

هناك حالة يعرفها كل علماء النفس تدعى “فومو” (Fomo) وهي اختصار يشير إلى الخوف من فوات الأشياء، أي أن الشخص يتصرف نتيجة خوفه من فوات اللحظات المهمة والأشياء المهمة، وهي إحدى الحالات التي يسيء المسوقون استخدامها في كافة قطاعات الحياة، كما أنها وفق دراسة كاتي تام السبب الرئيسي في الشعور بالملل أثناء التنقل بين مقاطع الفيديو المختلفة.

وتعزز تام من نتائج دراستها مشيرة إلى أن الملل مرتبط بشكل رئيسي مع دائرة الاهتمام الخاصة بنا، إذ يتسبب في حدوث فجوة بين ما نشعر به وبين ما نقوم به، وهذا ما يشعر به متابعو منصات الفيديو السريعة حيث إنهم لا يتفاعلون مباشرة مع أي مقطع فيديو وبدلا من ذلك يبحثون عن شيء قد يكون ممتعا دون التأكد من وجود هذا الشيء، أي أن المستخدم يخشى أن يفوته مقطع ممتع لأنه ظل يشاهد مقطعا بعينه.

جيل يشعر بالملل

تبنت جميع منصات التواصل الاجتماعي آلية عرض مقطع الفيديو المستخدمة في “تيك توك”، لذا أصبحت هذه التجربة عامة على جميع منصات التواصل الاجتماعي، ولا يمكن قصرها على منصة بعينها، وعندما تجتمع هذه الآلية مع سهولة الوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي من سن صغير، فإن النتيجة تكون جيلا يشعر بالملل بشكل كبير للغاية، وهذا ما أشارت إليه دراسة نشرت في صحيفة “جورنال أوف أدوليسنيس هيلث” حيث أجرت دراسة امتدت 9 سنوات، راقبت خلالها المراهقين في السنوات الدراسية من الـ8 وحتى الـ12.

ووجدت الدراسة أن أبناء الجيل زد يشعرون بالملل أكثر من غيرهم وبشكل أسرع من غيرهم، وهو الأمر الذي تعززه الدراسات التي أثبتت أن دورة انتباه أبناء الجيل زد أقصر من غيرها، إذ لا تتجاوز 8 ثوان مقارنة مع 12 ثانية لأبناء الألفية، لذا تنصح أغلب كتب التسويق الرقمي بأن يكون مقطع الفيديو مثيرا في الثواني الثماني الأولى منه.

الملل ليس شعورا سيئا

يحاول الجميع باختلاف أعمارهم الهرب من الملل، وهو الأمر الذي تقتات عليه منصات التواصل الاجتماعي وتحاول تغذيته في بعض الحالات، ولكن يجب ألا يكون الملل شعورا سيئا، إذ تشير عالمة النفس ستيفاني لي أن الملل شعور طبيعي للغاية، وقد يدفع المرء للابتكار والإبداع في بعض الحالات.

وأضافت لي قائلة إن الحياة يجب ألا تكون حول اللحظات الممتعة والمسلية فقط، بل يجب أن تمزج بين اللحظات التعيسة والممتعة وذلك حتى يتعلم الطفل كيف يمكنه التعامل مع مشاعره بشكل صحيح ليصبح قادرا على خوض غمار الحياة.

تقع مهمة تعليم الأطفال أهمية الملل على الكبار والبالغين في حياتهم، إذ يجب إرشادهم إلى آلية التعامل مع مشاعرهم السلبية سواء كانت الملل أو غيره، وهذا يتضمن أن يترك الآباء هواتفهم متوقفين عن البحث عن آليات الترفيه القصيرة التي تقتات على شعورهم بالملل مثل منصات التواصل الاجتماعي.

شاركها.
Exit mobile version