قال الموسيقار وعازف الكمان العراقي ليث صديق إن نشأته في أسرة موسيقية بالمنفى، وشغفه العميق بالموسيقى العربية رغم دراسته الأكاديمية الغربية، دفعاه ليكون سفيرا للثقافة الموسيقية الشرقية في العالم.

وأوضح صديق، في حديثه لبرنامج “المقابلة”، أن الحنين للعراق الذي غادره طفلا، والتفاعل مع موسيقيين من ثقافات متنوعة خلال دراسته بالخارج، شكّلا هويته الفنية ودفعاه للبحث عن جسور تربط بين الشرق والغرب.

وولد ليث صديق عام 1992 لأسرة عراقية موسيقية حتى النخاع، فوالدته عازفة كمان ووالده عازف بيانو وقائد أوركسترا ومدير لمعهد الموسيقى الوطني في عمّان، مما وفّر له بيئة خصبة لتنمية موهبته.

هاجرت أسرته من العراق إلى الأردن عام 1993 بسبب ظروف حرب الخليج، وكان عمره آنذاك عاما واحدا فقط، مما حرمه من معايشة البيئة الثقافية العراقية بشكل مباشر في طفولته.

ورغم ابتعاده الجغرافي عن العراق، أكد صديق أن الثقافة العراقية، بلهجتها ومأكولاتها وفنونها، ظلت حاضرة بقوة في منزله بالأردن، مما حافظ على ارتباطه العميق بجذوره.

بدأ صديق رحلته مع الموسيقى مبكرا، حيث تعلم العزف على آلة الكمان في سن الرابعة، متأثرا بوالدته العازفة وبالأجواء الموسيقية التي سادت المنزل، من تسجيلات أم كلثوم إلى رحلاته مع والده لحضور حفلاته.

الربابة أصل الكمان

ويرى أن اختيار آلة الكمان، رغم كونها غريبة الشكل، لم يكن انفصالا عن الجذور، مشيرا إلى أن أصول الكمان تعود إلى آلة الربابة العربية، مما يمنحها صلة تاريخية بالمنطقة.

تلقى صديق تعليمه الموسيقي الأول على يد أساتذة مرموقين في الأردن، منهم العراقي محمد علي عباس، ثم الأذربيجاني تيمور إبراهيموف الذي أشرف على تأسيسه الاحترافي لسنوات طويلة.

وأشار إلى أن دراسته الموسيقية المكثفة في معهد الموسيقى الوطني بالأردن كانت بيته الثاني، لتعويض غياب التعليم الموسيقي الجاد في المدارس الأكاديمية النظامية التي التحق بها.

وأكد صديق أن التأسيس الصحيح للموسيقي يتطلب رعاية من الأسرة والمجتمع، وشغفا داخليا، بالإضافة إلى تكريس الوقت والجهد للتدريب والتركيز على الآلة الموسيقية المختارة.

واعترف بأن نشأته في بيئة موسيقية بالكامل كانت استثنائية، لكنها فرضت عليه ضغوطا، كمنعه أحيانا من ممارسة رياضات قد تعرض أصابعه للخطر، باعتبارها كنزه ومستقبله كعازف.

ووصف ليث علاقته بأصابعه، خاصة أصابع يده اليسرى التي تضغط على أوتار الكمان، بأنها علاقة حميمة، حيث يشعر أن لكل إصبع شخصيته وإحساسه الخاص عند العزف.

وبعد إنهاء دراسته الثانوية في الأردن، أكمل آخر عامين في مدرسة “تشاتام” للموسيقى ببريطانيا، وهي مدرسة متخصصة تعتمد نظاما دراسيا موسيقيا مكثفا صقل مهاراته الكلاسيكية.

فرصة غير متوقعة

وكان صديق ينوي مواصلة دراسته للموسيقى الكلاسيكية في بريطانيا، لكن فرصة غير متوقعة للدراسة في كلية بيركلي للموسيقى بالولايات المتحدة غيرت مساره الأكاديمي والفني.

وأوضح أنه في البداية، ذهب إلى بيركلي وهو متمسك بخلفيته الكلاسيكية الأوروبية، لكن انفتاحه على أنواع موسيقية أخرى كالـ”جاز” والـ”بوب”، وتفاعله مع طلاب من أنحاء العالم، دفعه لإعادة اكتشاف هويته.

وأضاف أن تشجيع زملائه وأساتذته في بيركلي، ورغبتهم في التعرف على الموسيقى العربية، جعله يدرك أهمية الإرث الثقافي الذي يحمله، مما دفعه لتعميق معرفته به ليتمكن من تقديمه للآخرين.

وكان للموسيقار الفلسطيني سيمون شاهين، أستاذه في بيركلي، دور محوري في تقريبه من الموسيقى العربية، حيث تعلم منه أصول العزف الشرقي بطريقة السماع التقليدية، وليس فقط عبر النوتة الموسيقية.

ورغم إتقانه للموسيقى الغربية الكلاسيكية، أكد صديق أن وجدانه الموسيقي يظل شرقيا بامتياز، حيث يشعر بتوحد أعمق مع هويته وتاريخه عند عزف المقامات والتقاسيم العربية.

ويرفض فكرة ضرورة تقليد الموسيقي العربي للغرب كي ينجح عالميا، معتبرا أن التعبير الصادق والقوي عن الهوية الثقافية الخاصة هو ما يثير اهتمام الجمهور العالمي ويمنح الفنان تفرده.

مشاريع وإصدارات خاصة

وأسس صديق عدة مشاريع موسيقية تهدف لنشر الموسيقى العربية في الغرب، منها إدارته لفرقة الموسيقى العربية في جامعة تافتس، وإشرافه على مشروع تعليمي في مركز كارنيغي هول بنيويورك.

كما تولى إدارة أوركسترا نيويورك العربية بعد وفاة مؤسسها بسام صبا، وهي فرقة تضم موسيقيين معظمهم من غير العرب، لكنهم متخصصون وشغوفون بالموسيقى العربية.

وأصدر ليث ألبومات موسيقية تمزج بين الموسيقى العربية وأنماط عالمية أخرى، مثل ألبوم “ابن دجلة” الذي يربط بين الإيقاعات العراقية والجاز، وألبوم “همسة” مع فنان هندي، و”خطوات” مع موسيقي يوناني.

ولفت إلى الانتشار الواسع الذي حققه أحد فيديوهاته وهو يعزف مقطوعة ارتجالية مع الأوركسترا الوطنية العربية بأميركا، معتبرا أن تفاعل الجمهور وتناغم العازفين ساهما في نجاح المقطع رغم أنه لا يعتبره أفضل أداء له.

وحصل صديق على تقدير عالمي بفوزه بجوائز مرموقة، منها الجائزة الثانية في مسابقة “زايفرت” الدولية للكمان في بولندا عام 2018، وجائزة الفنان العالمي في مهرجان بوسطن للموسيقى عام 2020.

كما تم ترشيحه مؤخرا لجائزة “غرامي” المرموقة كجزء من مشروع موسيقي مع عازف البيانو البنمي دانيلو بيريز، مما يعد دافعا قويا له للاستمرار في مسيرته الفنية.

وعن مشاريعه المستقبلية، كشف ليث صديق عن حلمه بتقديم الموسيقى العربية في كل أنحاء العالم، وتطوير منهاج تعليمي عالمي موحد وشامل للموسيقى العربية يمكن تدريسه في المعاهد الدولية.

وأكد في ختام حديثه لبرنامج “المقابلة” أن الموسيقى والكمان هما وسيلته الدائمة للبحث عن ذاته وعن حالة “السلطنة” والطرب، معتبرا أن رحلة البحث هذه تتجدد باستمرار مع تقدمه في العمر وتراكم خبراته.

شاركها.
Exit mobile version