بيزنس الثلاثاء 11:59 ص

قبل تسع سنوات، وفي ليلة حالكة السواد ليلة 15 يوليو/تموز 2016، شهد الشعب التركي خيانة لم تختبر صلابة مؤسساته فحسب، بل لتمحص روح شعبها الحر، كانت ليلة تداعى فيها الأشرار وأغلقت فيها الدبابات الطرق، وأمطرت المروحيات المدنيين بالرصاص الحي، وقصفت عناصر متواطئة من داخل الجيش البرلمان، لكنها كانت أيضا ليلة انبعاث لمعنى الشجاعة والكرامة، حيث شهدت ميلاد إحدى أروع لحظات البطولة الجماعية والوحدة الوطنية في تاريخ تركيا الحديث.

لقد دبر محاولة الانقلاب هذه أعضاء منظمة فتح الله غولن الإرهابية (FETO)، وهي شبكة سرية عملت لعقود تحت ستار التدين المزيف والخدمة التعليمية بقيادة رجل الدين المقيم في الولايات المتحدة، فتح الله غولن، تآمرت منظمة فتح الله غولن بشكل منهجي وتسللت إلى المؤسسات الرئيسية للدولة التركية بثوب الورع والتربية – بما في ذلك الجيش والقضاء والشرطة والخدمة المدنية – من خلال أساليب غير قانونية مثل الاحتيال في الامتحانات والابتزاز وهياكل الولاء السرية.

لقد تنكرت المنظمة في صورة حركة دينية خيرية، مستغلة ثقة المواطنين المتدينين، لتغرس نفوذها في عقول الشباب من خلال المدارس ومراكز التحضير للامتحانات واللقاءات المجتمعية وآليات أخرى متنوعة، لكن وراء هذا الستار البريء، كانت تختبئ أجندة سوداء خبيثة، غير أن نواياهم وطموحاتهم الشريرة دفنت في ليلة 15 يوليو/تموز تحت أقدام إرادة الشعب التركي.

لم يكن ما حدث في 15 يوليو/تموز مجرد تمرد عسكري، بل كان اعتداء داخليا مخططا له بعناية على النظام الديموقراطي، نفذ بدقة وخبث، فقد قصفت طائرات مقاتلة مباني استراتيجية في أنقرة، وأطلق جنود مدججون بالسلاح النار على المدنيين العزل الذين وقفوا احتجاجا على هذا الاعتداء، وجرت محاولة اغتيال استهدفت الرئيس، واقتحامات لوسائل الإعلام لإسكات صوت الصحافة الحرة، كان الهدف واضحا: استبدال حكم القانون بحكم طائفة، وحتى يومنا هذا، مازال الكثيرون في تركيا – وخاصة في أنقرة وإسطنبول – يتذكرون صوت طائرات التآمر وهي تجوب في السماء، معتبرين إياه صوت الخيانة.

ومع ذلك، فإنه ما كان من المفترض أن يكسر ظهر الأمة، أدى إلى عكس ذلك تماما ومنحها أسبابا جديدة للتماسك، فدون تردد، ودون أي سلاح، ملأ ملايين المواطنين العاديين شوارع المدن والبلدات في جميع أنحاء البلاد، تحدوا حظر التجول ونيران المغتصبين، وقفوا في وجه الدبابات واستردوا سيادتهم، وبمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية، وقف شعب تركيا العظيم متحدا دفاعا عن ديموقراطيته، وأصبحت هذه الوحدة السلاح الأقوى في وجه المتآمرين.

ومع انبلاج الصباح، انقشعت غيمة الانقلاب وظهر فشله جليا، ولكن بتكلفة باهظة – 252 قتيلا، وأكثر من 2200 جريح، ومبان تداعت فوق أحلام ساكنيها الأبرياء.

ومع ذلك، لم تنزلق تركيا إلى الفوضى، فقد استجابت الدولة بسرعة وضمن الحدود القانونية، وبعد طول انتظار، بدأت محاسبة منظمة غولن الإرهابية، وقدم المسؤولون عنها للعدالة، فككت شبكات المنظمة في التعليم والإعلام والتمويل، بينما أصلحت المؤسسات العامة لاستعادة الشفافية، وأعيد هيكلة المؤسسات الأمنية التي اخترقتها الجماعة لتتماشى مع المصالح الوطنية.

في السنوات التي تلت محاولة الانقلاب الشنيعة، قطعت تركيا أشواطا كبيرة في ترسيخ الاستقرار السياسي، وتقليل الاعتماد على الخارج، وتبني سياسة خارجية أكثر حزما واعتمادا على الذات.

لقد أحدثت صدمة 15 يوليو/تموز تحولا ليس فقط في الحكم، بل في الوعي العام أيضا. حيث أصبح المواطنون اليوم أكثر وعيا بأهمية المسؤولية المدنية، واليقظة في مواجهة التهديدات المعادية للديموقراطية مثل هذه المحاولة الانقلابية الدنيئة.

لقد بات من الضروري للمجتمع الدولي أن يفهم طبيعة ما حدث في تلك الليلة، فإن منظمة فتح الله غولن الإرهابية ليست مجرد قضية تركية داخلية فحسب، بل هي تهديد عابر للحدود، يستخدم أساليب القوة الناعمة – المدارس، والمنظمات غير الحكومية، وشبكات الإعلام – ويستغل الحريات الديموقراطية ذاتها التي يسعى إلى تقويضها، كما أن الإرهاب يتخذ أشكالا متعددة، ينبغي على المجتمعات الديموقراطية أيضا أن تكون متيقظة للتهديدات غير التقليدية والخفية التي تسعى إلى تقويضها من الداخل.

في الخامس عشر من يوليو/تموز من كل عام، تحتفل تركيا بيوم الديموقراطية والوحدة الوطنية، وهو مناسبة لا تقتصر على استذكار أرواح الشهداء التي زهقت، بل أيضا لحظة تأمل في قوة وعظمة إرادتها الديموقراطية.

لقد ذكرت تلك الليلة الأمة بأن الديموقراطية ليست مجرد نظام مؤسسات، بل هي التزام حي بين الدولة والمواطن يمكن مهاجمتها، ولكن عندما ندافع عنها بوحدة وعزيمة، فإنها تصمد وتزدهر وتزداد قوة.

لاتزال ذكرى تلك الليلة حاضرة في الأذهان، ليس كلحظة حزن فحسب، بل كرمز للشجاعة الجماعية، لم ينتظر المواطنون الأتراك أن تحميهم الديموقراطية، بل نهضوا بأنفسهم لحمايتها، وبين خيار القمع أوالحرية، اختارت الأمة الديموقراطية.

بعد تسع سنوات، تقف تركيا شامخة، متدثرة بروح تلك الليلة التي لاتزال حية بوجدانها.

إن روح 15 يوليو/تموز ليست شيئا من الماضي، وما دامت تلك الروح حية، فلن يقوى أي ظلام على قهر وإخضاع إرادة الشعب التركي.

نقولها وبكل فخر: «اسم النصر: تركيا»، ونستذكر أرواح شهدائنا بالرحمة والامتنان، ونكرم أبناء الوطن قدامى المحاربين الذين رابطوا دفاعا عن الحرية والوطن، حفظ الله وحدتنا، وحمى ديموقراطيتنا، وأعز أمتنا.

شاركها.
Exit mobile version