بينما كان الإسرائيليون يتابعون نشرات الأخبار مساء الإثنين، ظهرالخبر العاجل على شاشة التلفاز: الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعلن، من المكتب البيضاوي، التوصل إلى اتفاق هدنة مع الحوثيين في اليمن. إعلانٌ بدا للوهلة الأولى كإنجاز دبلوماسي جديد للرئيس الأمريكي، الذي لا يملّ من تصوير نفسه كـ”صانع صفقات”.
لكن خلف الأبواب المغلقة في تل أبيب، لم يكن هذا الخبر سببًا للاحتفال. بل على العكس، دبّت الصدمة في أوساط المسؤولين الإسرائيليين الذين علموا بالتطور عبر الإعلام، لا عبر قنوات التنسيق المعتادة مع واشنطن.
سارع باراك رافيد، أحد أبرز الصحافيين الإسرائيليين المختصين بالشؤون السياسية، إلى التغريد ساخرًا: “من الذي لم يوقظ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في الليل؟ رئيس الأركان؟ أم رئيس الشاباك؟ أو رئيس الموساد؟ أم السكرتير العسكري؟”.
في إسرائيل، بدا واضحًا ألا أحد في المؤسسة السياسية أو العسكرية كان على علم مسبق بقرار ترامب، الذي يأتي في لحظة حرجة، حيث تواجه تل أبيب تهديدات متزايدة من الحوثيين المدعومين من إيران.
تغير الحسابات الأميركية
منذ أسابيع، تقصف إسرائيل مواقع الحوثيين ردًا على هجمات الجماعة بطائرات مسيّرة وصواريخ باليستية استهدفت الأراضي الإسرائيلية والسفن المرتبطة بها في البحر الأحمر، كان آخرها صاروخ بالستي سقط قرب مطار بن غوريون. العمليات الإسرائيلية كانت تتم أحيانًا بتنسيق مع الولايات المتحدة، لكن هدنة ترامب – التي وُلدت بوساطة عمانية – تركت إسرائيل وحيدة في الساحة. فالبيان الحوثي المرافق للهدنة أوضح أن التزام الجماعة بوقف الهجمات يقتصر على السفن الأميركية والدولية، ولا يشمل إسرائيل.
بمعنى آخر، ومن وجهة نظر تل أبيب، نجح الحوثيون في انتزاع تنازل من واشنطن، بينما احتفظوا بحرية استهداف إسرائيل.
هذه ليست المرة الأولى التي تُفاجَأ فيها الدولة العبرية من حليفها الأكبر. فقبل أشهر فقط، وخلال مؤتمر مشترك مع بنيامين نتنياهو، أعلن ترامب بشكل مفاجئ نيته بدء مفاوضات نووية مع إيران. يومها، شعر الإسرائيليون بأن الأرض تهتز تحت أقدامهم: هل نحن أمام رئيس أميركي يفكر بمنطق الصفقات بدل التحالفات؟ هل أصبح هاجس ترامب الشخصي بتسجيل إنجازات خارجية يتفوق على مراعاة مصالح الحلفاء؟
لفهم هذا التحول، يجب العودة خطوة إلى الوراء. عندما أطلقت إدارة بايدن في بداية 2024 حملتها العسكرية ضد الحوثيين، كانت الأهداف واضحة: حماية الملاحة الدولية، دعم الحلفاء الإقليميين، ومنع توسع الصراع الإقليمي بعد حرب غزة. لكن مع وصول ترامب إلى السلطة، تغيّرت الحسابات.
يدرك ترامب، أن الدخول في حرب طويلة ومفتوحة في اليمن هو خطر سياسي لا طائل منه. فالحوثيون، رغم ضعفهم التقني أمام الترسانة الأميركية، أثبتوا قدرة على امتصاص الضربات والاستمرار. كما أن استمرار التصعيد كان سيعقّد مسار المفاوضات مع إيران، وهو الملف الذي يعتبره ترامب جوهر استراتيجيته الجديدة في الشرق الأوسط.
من هنا، جاءت الهدنة: إنها طريقة لإغلاق جبهة مكلفة، حتى لو كان الثمن ترك الحلفاء في المنطقة أمام خصومهم المباشرين.
الشعور بالعزلة
ما يثير قلق الإسرائيليين ليس فقط الاتفاق مع الحوثيين، بل المنطق الذي يحكمه: فواشنطن باتت مستعدة للفصل بين مصالحها المباشرة (حماية سفنها وتأمين الملاحة) ومصالح حلفائها (أمن إسرائيل). وهذا ليس مجرد تفصيل تقني، بل تحوّل في طبيعة العلاقة.
كما قال دانيال شابيرو، المسؤول السابق في البنتاغون في حديث ما “وول ستريت جورنال”: “إذا تأكد أن الحوثيين سيتوقفون عن استهداف السفن الأميركية فقط، فهذا نصر محدود، لكنه لا ينهي تهديدهم لإسرائيل”.
صحيح أن ترامب يواصل تأكيد التزامه بأمن إسرائيل، لكنه يفعل ذلك بأسلوب شخصي ومصلحي، لا كجزء من استراتيجية شاملة. وهو أسلوب يترك الحلفاء في حالة من القلق الدائم: ماذا ستكون المفاجأة المقبلة؟
الهدنة بين ترامب والحوثيين لم تُنهِ الحرب، بل أعادت رسم خرائطها. وإذا كانت واشنطن تعتبر أن مشكلتها مع الحوثيين قد حُلّت مؤقتًا، فإن تل أبيب تجد نفسها أمام معادلة أكثر تعقيدًا: التهديدات مستمرة، بينما الحليف الأكبر مشغول بعقد صفقات أخرى. وفي لعبة الشرق الأوسط، لا مكان للفراغ: فكل خطوة أميركية للوراء تعني تقدمًا لقوى إقليمية أخرى، ربما لا تملك إسرائيل ترف تجاهلها.